من شعر وعباءة قد خلَّها في صدره بخلال، فاستوقفنا فلما صار معنا قُذِفَتْ له في قلوبنا الهيبة والرعب، وخرست ألسنتنا، ونحن في عدد كبير، وقال كذا وكذا، فلم نقدر على مراجعته، فقال الملك: لا يُنْتَفعُ بالحياة مادام إلياس حيًّا.
فعهد الملك إلى خمسين رجلًا من أهل القوَّة والنجدة والبأس وقال لهم: احتالوا عليه وأظهروا أنكم آمنتم به واغتالوه. فارتقوا الجبل وتفرَّقوا ينادون: يا نبيَّ الله، ابرزْ لنا، وامننْ علينا، فإنَّا قد آمنَا بك وصدَّقناك، وكل من عندنا والملك وزوجته، وأنت آمنٌ على نفسك فانزل واحكم فينا برأيك وأقم بين أظهرنا، ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلَّف عنا مع إيماننا بك وطاعتنا لك. وكان ذلك مكرًا منهم وخديعة.
فلما سمع إلياس ذلك وقع في قلبه كلامهم وخاف إن لم يجبهم أن يعاتبه الله تعالى، فهمَّ بالبروز إليهم ثم رجع إلى نفسه وقال: لو سألت الله أن يطلعني على ما في بواطنهم فقال: اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذنْ لي بالبروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فارمهم بنار تحرقهم، فما أتمَّ كلامه حتى أرسل الله عليهم نارًا فأحرقتهم.
وبلغ الملك فلم يرتدع حتى أقام فئةً أخرى مثل أولئك، فصعدوا الجبل وتفرَّقوا ينادون: يا نبيَّ الله، إنَّا لسنا مثل أولئك، فإنهم كانوا منافقين كذابين، وقد كفاك الله أمرهم. فأرسل الله عليهم نارًا فأحرقتهم كما فعل بأولئك.
وبلغ الملك فأراد أن يخرج إلى الجبل بنفسه فمنعه من ذلك مرض ابنه، فأرسل الكاتب المؤمن الذي يكتب لامرأته إلى إلياس، فإنه كان يأنس به، وبعث من ورائه فتيةً وأمرهم بإمساك إلياس إذا برز إلى الكاتب، ثم أظهر الملك إلى الكاتب أنه قد آمن بإلياس وتاب واتَّعظ بحريق الفتية ومَرَضِ ابنه، وقال: قل له إنا قد آمنا بك وخلعنا أصنامنا حتى تنزل إلينا وتحرقها أنت وتعود إلى حالك الأول. وكان ذلك مكرًا من الملك، فانطلق الكاتب إلى الجبل ثم ناداه يا إلياس، فعرف صوته وأوحى الله إليه: ابرز إلى أخيك الصالح وجدِّد العهد، فبرز إليه وسلَّم عليه وتصافحا وتعانقا وتباكيا فقال له: ما الخبر؟ فقال: قد أرسلني الجبَّار الطاغي وقصَّ عليه ما قال، ثم قال له: إني لخائف أن أرجعَ إليه ولستَ معي أن يقتلني فأمرني بما شئتَ، فإن أمرت انقطعتُ