للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال الإسكافيّ: حضرتُ مجلسَ المهتدي، وقد جلسَ للمظالم، فاستعداه رجلٌ على ابنٍ له، فأحضرَه، وحكم عليه بردِّ الحق، فقال الرجل: أنتَ والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى: [من السريع]

حكَّمتموه فقضَى بينكم … أبلجُ مثل القمر الزَّاهرِ

لا يقبلُ الرشوة في حُكْمه … ولا يبالي غَبَنَ الخاسرِ (١)

فقال له المهتدي: أمَّا أنا فما جلستُ هذا المجلس حتى قرأتُ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)[الأنبياء: ٤٧] فما رأيتُ باكيًا أكثرَ من ذلك اليوم (٢).

وقال هاشم بن القاسم الهاشميّ: كنتُ بحضرة المهتدي عشيةً من العشايا، فلمَّا كادت الشمسُ تغرب وَثَبْتُ لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال لي: اجلس، فجلست، وأذن المؤذِّنُ وأقام، فتقدَّم المهتدي فصلَّى بنا، ثم ركع وركعنا، ودعا بالطعام، فأُحضِر طبق خِلاف (٣)، وعليه أرغفةٌ من الخبز النقيّ، وفيه آنيةٌ في بعضها ملحٌ، وفي بعضها خلٌّ، وفي بعضها زيتٌ، فقال: كل، فأكلت أكل من يظنُّ أنَّه سيؤتَى بطعامٍ آخر فيه سَعَةٌ، فنظر إليَّ وقال: ألم تكن صائمًا؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازمًا على الصوم غدًا؟ قلت: بلى، أليس هو شهر رمضان؟! فقال: كل واستوف غداءَك، فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى، فعجبتُ من قوله وقلت: ولم يا أمير المؤمنين، وقد وسَّع الله عليك الرزقَ وبسطه؟ فقال: الأمرُ على ما وصفت، والحمد لله على ذلك، ولكنِّي فكَّرت في أنَّه كان في بني أميَّة عمرُ بن عبد العزيز، وكان من التقلُّل والتقشُّف على ما بلغك، فغرتُ علي بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثلُه، فأخذتُ نفسي بما رأيت (٤).

ووجد للمهتدي بعد قتله سَفَطٌ فيه جُبَّة صوف وكساء وبُرنُس كان يلبسه في الليل


(١) ديوان الأعشى الكبير ص ١٨٩.
(٢) تاريخ بغداد ٤/ ٥٥٥ - ٥٥٦.
(٣) الخِلاف: شجر الصفصاف.
(٤) تاريخ بغداد ٤/ ٥٥٦ - ٥٥٧.