للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأخذوا منه الكتاب، فلمَّا قرأه ما زاده ذلك إلا نفورًا وإصرارًا واستكبارًا، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره، ويقال: إنَّه قتل الرسول.

فسار أبو أحمد في جيوشه وعُدَدِه إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخَصيب، فأشرف عليها -وكان قد سمَّاها المختارة- فتأمَّلها، ورأى حصانتَها وأسوارَها وخنادقَها، وما وعّر (١) من الطُّرق المؤدِّية إليها، وما أعدَّ عليها من المجانيق والعرَّادات (٢) وآلاتِ القتال شيئًا لم يُرَ مثله في مدينة، ورأى من كثرة المقاتِلة (٣) ما استعظمه، ورفعوا أصواتهم فارتجَّت الأرض، فأمر الموفَّق ابنَه أبا العباس برَشْقِهم بالسِّهام فرماهم، ورمَوه عن يدٍ واحدة بالمجانيق والعرَّادات والمقاليع والآجُرّ والنُّشَّاب، فأذهلوا أبا أحمد والعسكر، فرجع عنهم، ولم يبق مكان إلَّا وفيه حَجرٌ أو سَهْم، وثبت أبو العبَّاس، واستأمن جماعةٌ من أصحاب الخبيث إليه، فأحسن إليهم ووصلهم، فلمَّا رأى أصحاب الخبيث ذلك استأمن منهم خلقٌ كثير، فخلع عليهم وأحسن إليهم.

ولما كان في اليوم الثاني جهَّز الخبيث بَهْبوذ في السّميريات، فالتقاه أبو العبَّاس واقتتلوا، فأصاب بَهبوذ طعنتان، وجُرح جراحات بالسِّهام، وهرب إلى الخبيث.

وعاد الموفَّق إلى معسكره بنهر المبارك وقد تبعه خلقٌ كثير من أصحاب الخبيث مستأمنين، فخلع عليهم وضمَّهم إلى ولدِه أبي العباس.

ولما كان في شعبان خرج الخبيثُ في ثلاث مئة ألف مقاتل ما بين فارس ورَاجِل، وركب أبو أحمد في خمسين ألفًا، وبينهم النَّهر، فنادى أبو أحمد بالأمان لأصحاب الخبيث، فاستأمن إليه خلقٌ كثير، فأحسن إليهم، وانفصلوا عن غيرِ قتال (٤).

وفيها بنى الموفَّق مدينة بإزاء مدينة الخبيث على جانب دجلة، وسمَّاها الموفَّقية، وذلك لأنَّه فكر ونظر، فرأى أنَّه لابُدَّ من مصابرته وحصاره، وتفريق جماعته عنه بالإحسان إليهم، فشرع في بناء المدينة، وكتب الكتب إلى عمَّاله بإنفاذ الصُنَّاع والمِيرة


(١) في "تاريخ الطبري"٩/ ٥٨١، و"المنتظم" ١٢/ ٢١٢: عور.
(٢) العرّادات: شبه المنجنيق صغيرة. اللسان: (عرد).
(٣) في (خ) و (ف): القتال. والمثبت من "تاريخ الطبري"، و"تاريخ الإسلام" ٦/ ٢٤٩.
(٤) من أول السنة إلى هنا ليس في (ب).