ثمَّ رفع رأسه إليَّ وقال: الحمد لله الذي وفَّقني لهذا الفعل، فقلت: كيف تكلَّف أمير المؤمنين النَّظر في هذا بنفسه في مثل هذا الوقت؟! فقال: ويحك، إنِّي رأيتُ في منامي رجلًا يقول: في حبسك رجلان مظلومان، منصور الجمَّال، وفلان الحدَّاد، فأَطْلِقْهما السَّاعة وأحسِنْ إليهما، فانتبهتُ مَذعورًا، ثمَّ نمت، فرأيت ذلك الشَّخص بعينه يقول لي: ويلك آمُرُك أن تُطلق رجلَين مظلومَين في حبسك فلا تفعل، وترجع تنام؟ فقلتُ له: يا هذا، مَن أنت؟ فقال: أنا محمد رسول الله، فقبَّلت يده وقلت: يا رسول الله ما عرفتُك، ولو عرفتُك ما جَسَرتُ على تأخير أمرك، قال: قم فاعمل في أمرهما ما أمرتُك به، فانتبهتُ، فاستدعيتُك لتَشهدَ ما يجري.
فقلت: هذه عنايةٌ من رسول الله ﷺ بأمير المؤمنين، واهتمامٌ بما يُصلح دينَه، ويثبِّتُ ملكَه، فالمنَّة لله ولرسوله، فقال: امض فقد أزعجناك.
فعدتُ إلى حُجرتي، فلمَّا كان من الغد دخلتُ عليه وهو جالس للرَّسم، فأحببت أن أعرِّف الجلساء ما جرى البارحة ليزهو بذلك، وكنتُ أعرفُ من طَبعه أنَّه يُحبُّ الإطراءَ والمَدْح، فقلت: أرى أمير المؤمنين ليس يخبر خدمه بما كان من المعجز البارحة، وعناية رسول الله ﷺ بخلافته، فقال: وما ذاك؟ فقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صاحب الشُّرطة والجمَّال والحدَّاد، ورؤياه النبيّ ﷺ، وما أمره فيهما، والإحسان إليهما، وإطلاقهما، فقال: والله ما أذكرُ من هذا شيئًا، وما كنت إلَّا سكران، نائمًا طولَ ليلتي، فقلتُ: بلى يا سيِّدي، فتنكَّر، وقال: قد صرتَ تُغالطني وتُخادعني بالكذب؟ فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، هذا أمر مشهور في الدَّار عند الخدم، وصاحب الشرطة نفسه، وقصصتُ عليه القصَّة، وشرحتُها له.
فاستدعى الخدم، فتحدَّثوا بمثل ما ذكرتُه، فأظهر تعجُّبًا شديدًا، وحلفَ بالبراءة من رسول الله ﷺ، وبالله العظيم، وبالنَّفي من العبَّاس أنَّه ما يذكر شيئًا من ذلك، ولا يعلم إلَّا أنَّه كان نائمًا، ولا رأى منامًا، ولا انتبه، ولا جلس، ولا استدعى أحدًا، ولا أمر بأمر، فما رأيتُ أعجبَ من هذا المنام، ولا أظرف من هذا الاتِّفاق في كتابة ذلك.