قراءته الزبور، ولأن الوحش لم تعد تصغي إليه كما كانت، ولما شكا إلى الله أوحى إليه: خطيئتك أسقطت منزلتك عندنا وعند الخلق، ورفعت الحالة التي كانت بيننا، فكان بكاؤه على تلك الحالة.
فإن قيل: فلم أخَّرَ توبته ثلاثين سنة أو أربعين على ما قيل؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنه أراد تعظيم الذنب في عينه وأعين الناس بإغلاق باب التوبة أربعين سنة.
والثاني: أنه كان يحب أن يسمع أنينه وبكاءَه، وفي بعض الكتب: أنين المذنبين أحبُّ إلينا من صياح الصديقين أو وَجَلِ المسبحين.
والثالث: خصمه كان ميِّتًا فعظَّم الذنبَ ليزجر العباد عن أذى الخصوم.
وقال مقاتل: نظر يومًا إلى حمامة تغرِّد على غصن فبكى، قال: يا حمامة، قد كنتُ قبل الخطيئة أفهم ما تقولين أما اليوم فلا، فما زالت الحمامة تضرب بجناحيها ومنقارها الأرض حتى خرج الدمُ من حلقها وماتت.
وقال مقاتل: كان داود يستغفر للخاطئين، فقال الله تعالى: بالأمس تقول: لا أستغفر لهم، قال: يا ربِّ، فبأي الأدعية أتقرب إليك؟ فقال: ادعني بيا حبيبَ البكائين.
وقال أبو سليمان الداراني: ما عمل داود ﵇ عملًا كان أنفعَ له من خطيئته، مازال منها خائفًا هاربًا حتى لحق بربه. قالوا: وهذا معنى قولهم: "رُبَّ ذنبٍ أدخلَ صاحبه الجنة".
وذكر مقاتل بن سليمان في "المبتدأ" له عن وهب بن منبه أنه قال: إذا دخل الجنةَ أهلُها وُضِعَ لداود منبرٌ في النور من نور، في أعلى درجة في الجنة، ويقول الله: يا داود، قم احمدني في الجنة بصوتك الرخيم كما كنت تفعل في دار الدنيا، فيقوم فيحمد الله تعالى بمحامد يقول: الحمد لله الذي لا يقدر قدرَهُ المتفكرون، والحمد لله الذي لا يُحصي نِعمَه العادُّون، والحمد لله الذي لا يبلُغ مدحَه المادحون، والحمد لله الذي لا يؤدِّي حقَّه المجتهدون. فإذا رفع داود صوته استفرغ نعيم أهل الجنة، قال: وعن يمين المنبر قباب من اللؤلؤ، فيقول داود: يا ربِّ، من يسكنُ هذه القباب؟ فيقول الله تعالى: من يتواضع لعظمتي، ويقضي زمانه بذكري، ويكف نفسه عن الشهوات لأجلي، يطعم