للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وروى الثعلبي أيضًا عن عبد الرحمن الهذلي قال: ما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات.

وقال الثعلبي: كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولا تصغي إليه البهائم والوحش والطير كما كانت قبلها، ونقصت نغمته فكان يقول: بحَّ صوتي. فقال: يا إلهي، ما هذا؟ فأوحى الله إليه يا داود، خطيئتك هي التي غيَّرت صوتك وحالك، قال: يا رب، أليس قد غفرتَها لي؟ قال: بلى، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودِّ والقربة فلا تدركها أبدًا (١). وفي رواية: أما الذنب فقد غفرته، وأما الودُّ فلا يعود.

وحدثنا جدي بإسناده عن مجاهد قال: كانت خطيئته في كفِّه مكتوبة، فسجد حتى نبت من البقل ما وارى أذنيه أو رأسه، ثم نادى: يا ربِّ، قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في ذنبه شيء، فنودي: أجائع فتطعم، أم عار فتكسى، أم مظلوم فَيُنْتَصَرُ لك؟ فلما رأى أنه لم يرجع إليه في ذنبه شيء نحب نحبة فهاج ما ثَمَّ (٢). وفي رواية: فأحرق ما حوله بنفسه.

وقال أهل السير: كان له جاريتان قد أعدهما، فكان إذا جاءه الخوف سقط واضطرب، فقعدتا على صدره ورجليه مخافة أن تتفرَّق أعضاؤه.

فإن قيل: فما فائدة التوبة مع هذا البكاء والقلق والخوف، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها؟ فالجواب من وجوه:

أحدها: أن فائدتها غفران الذنب ومسامحة أوريا وتهذيب داود.

والثاني: أن الندم توبة لهذه الأمَّة خصَّها الله به، ولهذا إن الذين عبدوا العجل ندموا فلم ينفعهم الندم حتى أمرهم الله بأن يقتل بعضهم بعضًا.

والثالث: أن بكاءَه وتناجيه المرَّ وقلقه بعد التوبة إنما كان أسفًا على ما فاته من المودة والمواد الإلهية، ألا ترى أن خطيئته أَثَّرَتْ في صوته وفي كون الماء لم يقف عند


(١) انظر "عرائس المجالس" ص ٢٧٨.
(٢) أخرجه ابن الجوزي في "التبصرة" ١/ ٢٧٧ - ٢٧٨.