للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال علماء السِّير: إنما تفقد الهدهد من دون سائر الطيور لوجهين:

أحدهما: لأنه كان يدلُّه على الماء، قاله ابن عباس ﵁.

والثاني: لأن سليمان كان إذا سافر جلس على كرسيه، وتوضع الكراسي عن يمينه وشماله، وتقوم الجنُّ في خدمته، وتظله الطير، ولكلِّ جنس مقام، وكان موقف الهدهد على رأسه يُظلُّه من الشمس (١).

قال ابن عباس ﷺ: كان هذا بعد فراغه من بناء البيت المقدس، فإنه عزم على دخول الحجاز واليَمَن، فسار في جنوده على عادته والبساطُ يُقِلُّه، فأتى حرم مَكَّة فنزل به، وأقام أيامًا يطوف بالبيت ويسعى وَيعتمر، ويذبح كلَّ يوم خمسة آلاف ناقة وعشرة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة.

وقال مجاهد: قال سليمان لأصحابه: هذا مكان شريف يخرج منه نبيٌّ كريم اسمه محمد، وفي "التوراة": أحمد، يُعْطى النَّصر على مَن ناوَأه، وتبلغُ هيبَتُه مسيرةَ شهر، القريب والبعيد عنده في الحقِّ سواء، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، يدين بدين الحنيفية، يخرج بعد ألف عام، ثم كسر الأصنام وقضى نُسُكَه. وقيل: إنَّه قال: وإنَّ اسمه لفي زبر الأنبياء: منيب، ثم دخل إلى اليمن.

وكان كثير الغزو لا يَسمع بملك في أطراف الأرض إلا غزاه وأَذلَّه، فسار من مكة يؤمُّ سُهيلًا حتى أتى موضع صَنْعَاء، ولم تكن بُنيَتْ بعد، وإنما أتى مكانها وقت الزوال، وكان قد خرج من مكة وقتَ الفجر، وذلك بمقدار سير شهر للراكب المجدِّ، فرأى أرضًا خضراء فأعجبته، فنزل بها ليتغدّى ويصلي الظُّهر، فطلب الماءَ فلم يجد، فسأل الشياطين فقالوا: لا يَعلمُ مكانَ الماء إلا الهدهد، فطلبه فلم يجده.

قال ابن عباس: كان الهدهد يدُلُّه على الماء، وهو يراه من تحت الأرض كما يراه الإنسان في كأسه، ينقر الأرض فيعرف مكان الماء ويستخرجه الشياطين، ولما سمع نافع بن الأزرق هذا من ابن عباس قال: كيف يبصر الماءَ من تحت الأرض ولا يبصر الفخَّ حتى يجيء فيقع فيه فيأخذ بعنقه؟! فقال له ابن عباس: وَيحَك إذا جاء القَدَر حال


(١) انظر "عرائس المجالس" ص ٣١٣.