خرجتُ من دمشق مع جماعة إلى جبل لبنان نَلْتمسُ مَن فيه من العُبَّاد، فمشينا ثلاثةَ أيام فلم نجد أحدًا، فجلسنا تحت شجرة، ومضى أصحابي يَطلبون أحدًا من الزهَّاد، فنمتُ، فلمَّا طلع الفجرُ نزلتُ إلى الوادي أطلبُ الماء، وإذا بعين صغيرة تخرجُ من كهف، فتوضَّأتُ وصلَّيتُ، وسمعتُ صوتَ قراءةٍ فقَصَدتُه، وإذا بكهفٍ في جانب الجبل، فدخلتُه وفيه مَغارة، وإذا بشيخٍ ضَرير جالس، فسلَّمتُ عليه فقال: إنسيٌّ أم جنّيٌّ؟ قلتُ: إنسي، فقال: لا إله إلَّا الله، ما رأيتُ إنسيًّا منذ ثلاثين سنة غيرَك.
قال: وكنتُ مَتْعوبًا، فنمتُ في جانب الكهف، فلما جاء وقتُ الظهر أيقظَني، فخرجتُ فتوضَّأتُ وصليتُ معه، ودعا وقال: اللهم ارحَم أمةَ مُحَمَّد ﷺ وأصلحهم وفرِّج عنهم.
فلمَّا صلينا العشاء الآخرة قال: تأكل؟ قلتُ: نعم، قال: قم فأدخل المَغارةَ، فدخلتُ، فوجدتُ أنواعَ الفاكهة: زبيبًا، وجوزًا، وتفاحًا، وفستقًا، وحبَّةَ الخضراء، وكلُّ صِنْفٍ مَعزولٌ ناحيةً، وإذا بثلاثة قبور مُصْطَفَّة، فتقدَّمتُ وأكلتُ، ثم خرجتُ فقلتُ: من أين هذه الفاكهة؟ فقال: سوف ترى، وإذا بطائرٍ قد أقبل، وله جناحان أبيضان وصدره أخضر، وفي مِنقاره حَبَّةُ زَبيب، وفي رجليه جَوزة، فدخل فوضع الزَّبيبةَ على الزَّبيب والجَوزةَ على الجوز، قال: أرأيت؟ قلت: نعم، قال: هذا قوتي منذُ ثلاثين سنة.
قال: وعليه ثوبٌ من التَّوَّز بغير كُمَّين، فقلتُ: مَن يأتيك بهذا؟ قال: الطائر، وعنده مِسَلَّةٌ يَخيطُه بها.
فلمَّا كان في الليل دخل علينا سبعةُ أنفسٍ، ثيابُهم شُعورهم، وعيونُهم مُشَقَّقة حُمر، فخفتُ منهم فقال: لا تخف، هؤلاء الجن، فقرأ عليه واحد سورة طه، وآخر سورة الفرقان، وآخر سورة الرَّحْمَن، وتلقَّن بعضهم، ومضوا.
فقلتُ: كم لك ها هنا؟ فقال: أربعين سنةً، أقمتُ منها عشرَ سنين أَجني المُباحَ، فذهب بصري منذ ثلاثين سنة، فقيَّضَ الله لي هذا الطائر يحملُ ما ترى.
ثم قال: أخبرني هؤلاء القوم -يعني الجنَّ- أنَّ القرمطيَّ دخل مكة فقتل الحاجَّ قَتْلًا ذَريعًا وفعل وفعل، وكان ذلك في سنة سبع عشرة وثلاث مئة، فقلتُ: قد كثُرَ دُعاء