للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحكى السِّيرافي عنه أنَّه قال: نزلتُ سيراف، فوجدتُ الجهلَ غالبًا عليهم، فكنتُ أجلس في الجامع ساكتًا لا يُكلِّمني أحدٌ ولا أُكلِّمه، فعملتُ هذه الأبيات، وكتبتُها في رُقعة، وألصقتُها بالأسطوانة التي كنت أقعُد عندها وهي هذه: [من البسيط]

قالوا نَراك تُطيلُ الصَّمْتَ قلت لهم … ما طولُ صمْتيَ من عِيٍّ ولا خَرَسِ

لكنه أجْمَلُ الأمرَين مَنزلةً … عندي وأحسنُ لي من مَنْطِقٍ شَكِسِ

قالوا نَراك أديبًا لستَ ذا خَطَلٍ … فقلت هاتوا أروني وجْهَ مُقْتَبِسِ

لو شئتُ قلتُ ولكن لا أرى أحدًا … يَروي الكلامَ فأُعطيه مَدى النَّفَسِ

أَأَنْثُرُ الدُّرَّ فيمن ليس يَعرفه … وأَنْشُرُ البَزَّ بين العُمْي في الغَلَسِ (١)

ذكر وفاته:

توفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان، فلمَّا خرجت جنازتُه إذا بجنازة أبي هاشم الجُبَّائي رئيس المُعْتَزلة، فقال الناس: اليوم مات علم العربية وعلم الكلام، ودُفنا جميعًا في مقابر الخَيزُران في يوم مَطير، ولم يعلم بموته أكثر الناس، وكنا جُمَيِّعَةً في الجنازة (٢)، فبينا نحن ندفنه وإذا بجنازةٍ أخرى معها جُمَيِّعة عرفتُهم بالأدب، فسألتُ عنها فقيل: هذه جنازة ابن دُرَيد، فذكرتُ حديثَ الرَّشيد لمَّا دفن محمَّد بن الحسن والكسائي بالرَّي في يوم واحدٍ، فأخبرتُ أصحابنا، فبَكَينا على العربية والكلام طويلًا، ثم افترقنا.

حدَّث ابن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وأبي حاتم، والرِّياشي وغيرهم، وروى عنه أبو سعيد السِّيرافي، وأبو عبيد الله المَرْزُباني، وأبو بكر بن شاذان وآخرون.

وقال محمَّد بن أحمد الكاتب: كان ابن دُريد يَتَشوَّق إلى بغداد، فلمَّا قدمها لم تُعجبْه قواعدُها فقال: [من الطويل]

سمعتُ بذِكْر النَّاسِ هندًا فلم أزل … أخا صَبْوَةٍ حتى نظرتُ إلى هند


(١) انظر معجم الأدباء ١٦/ ٢٠٥.
(٢) القائل: وكنا جميعة في الجنازة؛ هو راوي الخبر: الحسن بن سهل القاضي، كما في تاريخ بغداد ١٢/ ٣٢٨، وعنه المنتظم ١٣/ ٣٣١، وقد اختصر هنا وأغفل اسمه.