الوَعْدِ والوَعيد، ولم يَريا إجابةَ الطَّائع بالاعتراف له بالخلافة، لئلا يُلْزِمَهما لوازم الطَّاعة، ولم يَريا تَرْكَ الجواب فيكون ذلك ممولًا عن الحُجَّة، فأمر أبا إسحاق إبراهيم بن هِلال الصَّابئ أن يُجيب عنه بجوابٍ يُخاطبه فيه بالإمرة، وأن يُغْلِظَ له فيه، فكتب إليه جوابًا منه:
للأمير أبي بكر عبد الكريم بن أمير المؤمنين المطيع لله من عز الدولة أبي منصور بن مُعزّ الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين المطيع: سَلامٌ على الأمير، أما بعد: فإنه وصل كتابُه أحسن الله توفيقَه وتسديدَه، وهدايتَه ورُشْدَه، مُفْتتحًا بالاعْتزاء إلى إمرة أمير المؤمنين، والتَّقَلُّد لأمور المسلمين، وقد علم أن الخلافة تحتاجُ إلى إجماعٍ لا يَختلِفُ فيه رأيان، ولا يَختصم فيه اثنان، فإن تَعذَّر اجتماعُ الكُل لانبساطهم في الأرض ذات الطُّول والعَرْض؛ فلا بدَّ من اتفاق أشرافِ كل قُطرٍ وأفاضلِه، وأعيانِ كل صُقْعٍ وأماثله، ليَحصل الإجماعُ حينئذٍ حُصولًا لا يَعْتَلّ، ويَنْتَظِمَ انتظامًا لا يَخْتَلّ، أو من عهدِ إمامٍ جائزٍ أمرُه وحُكمُه، أصيلٍ رأيُه وفَهْمُه مُمَكَّنٍ مما يُورِدُ ويُصْدِر، مُخَيَّرٍ فيما يأتي ويَذَر، غيرِ مَحجوبٍ عن الإرادة، ولا مَحْمولٍ على الكَراهة، ولا مُضْطَهَدٍ بالإخافة، ومع ذلك فليس له أن يُمضِيَ ذلك على المسلمين إلا بعد عَرْضِه على صُلَحائهم وخيارِهم، وكُبَرائهم وعُظَمائهم؛ ليَرجعَ الأمرُ إلى الاتفاق الذي هو القُطْبُ المُدارُ عليه، والعَمودُ المُشارُ إليه.
وقد علم الأمير أن الأئمةَ كانت إذا أرادت أن تَعْهَد عَهْدًا أحْكَمت له الأُصول، ومَهَّدت له السَّبيلَ، وهذا عمر بن الخطاب ﵁ هو القُدْوَة العُظْمى، وفيه الأُسْوَةُ الكُبرى، سُئل لمَّا احتُضِر عن الخليفة بعده فقال: لم أكن لأَتَحَمَّلها حيًّا وميتًا، وكيف أفعل ذلك وقد مضى رسول الله ﷺ ولم يَسْتَخْلِف؟ فلمَّا ألحَّ عليه المسلمون جعلها شُورى في الستَّة المعروفين، وفَوَّض إلى المسلمين أن يَختاروا لأنفسهم مَن يَرتَضونه ويختارونه ويوَلُّونه، فإذا لم يكن البِناءُ -أيَّد الله الأمير- موضوعًا على أحد هذين الاثنين، ولا مَعقودًا على أحد هذين الوَجْهَين، بل كان مَعدولًا عنهما، ومُخَالفًا فيه شرطهما فما أَخْلَقَ به أن تَتَقَوَّضَ أعاليه، ونَزِلَّ قدمُ بانيه.