للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكنتَ في أيامنا مُوَفَّرًا مَصونا، مُوَقَّرًا مأمونا، مُتَرَفِّعًا عن بَذْلِ الخِدْمَة، مَحمولًا على دالَّةِ الحُرْمَة، مُسامَحًا بما تَطلُبه، مُسَوَّغًا ما تَقْتَرِحُه، مُشَفَّعًا فيما تسألُه، مُجابًا إلى ما تَلْتَمِسه، نُقَرِّبُ مَن قَرَّبْتَ، ونُبعِدُ مَن أبعدْتَ، ونرضى ما رَضيتَ، ونَكره ما كَرِهت، إقطاعاتُك مُقَرَّةٌ عليك، ومَوادُّكَ مُنْصَبَّةٌ إليك، لا تَعرِفُ إلا الصَّبوحَ والغَبوق، ولا نُلزِمُك شيئًا من الحقوق المؤدِّية إلى العُقوق، وأنت مَشغولٌ باقتناء الذَّخائرِ النَفيسَة، وبناء الأبنية الرَّفيعة المَشِيدَة، ونحن في نَوائبَ تُلِمُّ بنا، وجَوائحَ تَرِدُ علينا، وعَدُوِّ نَهْدٍ نُساورُه، وأمرٍ مُضَيَّعٍ نُباشِرُه، وأنت مَشغولٌ بنفسك، لا ترى لنا ما يَراه الشَّريكُ لشَريكه، فَضْلًا عن المَولى لمَليكه.

وما زلتَ تَترقَّى في العُقوق؛ إلى أن صِرتَ لا تَحضُرُ عندنا في مَجلس، ولا تركبُ معنا في مَوكِب، ولا تهنِّئنا بعَطيَّة، ولا تُعَزِّينا عن رَزِيَّة، وتَدَّعي مع ذلك علينا أنا نَبْغيكَ بالغَوائل، ونَنْصُبُ لك الحَبائل، وما مُرادُك إلا أن تَتداولَ الناسُ دَعواك، ويَتفاوَضُوا شَكواك، فيتَخَمَّر في قلوبهم، ويَتقرَّر في نفوسهم أن ذلك رُخصةً في المَرْكِب الذي ارتكَبْتَه، وفُسْحَةً في الإثم الذي احْتَقَبْتَه.

وعَلَّامُ الغيوب المُطَّلِعُ على ضَمائر القلوب يَشهد عليك باستحالةِ ما تَذْكُره، ويَشهد لنا بصَفاء ما نُضمِرُه، وإنا بريئون من كل ما زَعَمْتَ وظَنَنْتَ واتَّهَمْتَ، ولو كنَّا نُريد بك سُوءًا لكان مَرامُه أسهلَ وأيسرَ، وطَريقُه أخصَرَ وأقصر، وكنا قادِرين على انتهازِ فُرَصٍ منك كثيرة، منها: شَغَبُ غِلمانِك عليك، وإحاطتُهم بك، وهَرَبُك منهم وَحيدًا، وخُروجُك من بينهم فَريدًا، وقد علمتَ أنا وَقَيناك منهم، وكفَيناك إيَّاهم، وأنْفَذْنا إليك مَن حَماك وحَرَسَك، وصانَك وحَفِظَك، وفَعلْنا في ذاك ضدَّ فِعلك في إفساد غِلماننا علينا، وتجرئتهم بالمكروه إلينا … وذكر فُرَصًا كثيرة وكلامًا طويلًا، فلم يلتفت سُبكتكين إلى ذلك، وأصرَّ على لقائه (١).

وحجَّ بالناس أبو منصور محمد بن عُمر العَلَوي، ولم يصلوا إلى مكة لعدم الماء، فعدلوا إلى المدينة، فلما وصلوا إليها بَرَكت الجمالُ مَيتةً من العَطَش، فوقفوا يومَ عَرفة عند رسول الله ، وخُطب بمكة للمُعزّ ولم يُخْطَب للمُطيع.


(١) من قوله: وكان حمدان بن ناصر الدولة قد توجه إلى الرحبة ..... إلى هنا ليس في (ف م م ١).