ساروا من بغداد إلى عُكْبَرا وسامُرّاء وتكريت، وتَفَرَّق بعضُهم، ولم يبق مع الهَفْتَكين سوى ثلاث مئة غُلام، فسار إلى الشَّام، وأقام بحمص أيامًا، ثم سار إلى دمشق والعَيَّارون قد مَلَكوها، فنزل بظاهرها، وخرج إليه أشرافُها وشيوخُها، وخدموه، وأظهروا السُّرورَ به، وسألوه المقامَ عندهم، ودَفعَ أذى العَيَّارِين عنهم، فأجابهم إلى ذلك، وتَوثَّق منهم بالأيمان والعُهود، ودخلها فأحسن السّيرة، وقَمَعَ أهلَ الفساد، وقامت له الهَيبَةُ في قلوبهم، فأحَبُّوه، وأطاعته العرب المتغلِّبون على ضواحي دمشق، وكتب إلى المعزِّ بالطاعة، فاستدعاه إلى حَضْرَتِه ليُحْسِنَ إليه وَيرُدَّه إلى دمشق، فخاف منه، فتعَلَّل عليه، ومات المُعزُّ، وقام ابنُه العزيز، فجَهَّز إليه جيشًا مع القائد جَوْهَر، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقيل: إنه كان بدمشق قائدٌ من قُوَّاد المصريين يقال له: رَيَّان قد آذى أهلَها، فأخرجوه، ووَلَّوا الهفتكين -وهو الأصحّ- فدخلها في شعبان، وأقام الدَّعوةَ للمُطيع.
وخرج ابن الشَّمْشَقيق (١) الرُّومي في هذه السنة إلى الثُّغور، فمَلَكها، واستولى على أكثرها، فدَعَتِ الضَّرورةُ أبا بكر بن الزَّيَّات صاحبَ طَرَسوس إلى مُصالحتِه، فصالحه، وخرج إليه في عِدَّةٍ من أهل طَرَسوس، فأحسَنَ إليهم وأمَّنَهم، وسار إلى حمص وافتتحها، وقصد بَعْلَبك فافتتحها، فكتب ابن الزيات إلى الهَفْتَكين وأهلِ دمشق يقول: لا طاقةَ لكم بصاحب الروم، والمصلحة أن تَدخلوا في طاعته، وتُقَرِّروا عليكم مالًا.
فأجابه الهفتكين، ورَدَّ الأمرَ إليه فيما يفعلُه، فدخلَ ابنُ الزيَّات على ابن الشمشقيق وحادثه، فأعطاهم الأمانَ على نفوسهم وأموالهم، وأن يؤدُّوا إليه في كل سنةٍ ثلاث مئة ألف درهم.
فكتب ابنُ الزيَّات إلى الهفتكين وشيوخ دمشق بأن يَخرجوا للقائه، فتلقَّوه من الزَّبَداني في أحسَنِ زِيّ، فأقبل عليه، وقَرَّبه، وأكرَمَه، وخاطب الدِّمشقيين بأحسنِ خِطاب، وأكرَمهم.
(١) في (خ ب): السمسق، والمثبت من تكملة الطبري ٤٤٤، وتاريخ دمشق لابن القلانسي ٢٢، وكنز الدرر ٦/ ١٦٩.