ولما رأى دمشقَ أعجبته، فأمر أصحابَه ألا يتَعرَّضوا لها، وأقام أيامًا بظاهرها والهفتكين يخرج إليه كلَّ يوم، ويُسايره، ويَلعَبُ بين يديه بآلة الحرب، فقال ابن الشمشقيق لابن الزَّيَّات: ما رأيتُ أحسنَ من هذا الغلام، وقد أعجَبَني وأحببْتُه، وكان يركب في المماليك في الزّيّ الإسلامي، ويتطاعنون بين يديه، وَيرْمون بالنُّشَّاب، فعرَّفَ ابنُ الزَّيَّات الهفتكين قولَ الروميّ، فتَرجَّل وقَبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال الرومي لابن الزيات: عَرِّفْه أنني قد وَهَبْتُ له الخَراجَ، فترجَّل ثانيًا وقبَّلَ الأرضَ بين يديه.
ثم إن الهفتكين بعث إليه بالفرس الذي كان تحته والسلاح -وكان قد طلَبه من ابن الزيَّات- وبعث معه عشرين فَرَسًا بتَجافيفها (١)، وعِدَّةً ورِماحًا، وشيئًا كثيرًا من أصناف الثِّياب والطِّيب والطُّرَف، فردَّ الجميع، وأخذ الفَرَس والسِّلاح، وبعث له مُكافأةً على الهديَّة أثوابَ دِيباج كثيرة، وبغلات وغيرها، وسار إلى السَّاحل، ووَدَّعه الهفتكين ورجع إلى دمشق.
ونزل الروميُّ على صَيدا، فخرج إليه أبو الفتح بن الشَّيخ -وكان رجلًا جَليلَ القَدْر- ومعه شيوخ البلد، وطلبوا الأمان فأعطاهم، وقَرَّروا على نفوسهم مالًا، وأهْدَوا له هَدِيَّةً، فرحل عنهم على موادَعةٍ، ونزل على بيروت فقاتلوه، ففتحها عَنوةً، ونهبها وسبى أهلَها، وفعل بجُبيل كذلك، ثم نازل طرابلس فأقام عليها نيفًا وأربعين يومًا يُقاتل أهلَها ويقاتلونه، فبينا هو كذلك إذ دسَّ إليه بسيل وقسطنطين سُمًّا في شرابٍ فاعتَلَّ، ونزل على أنطاكية فقطع أشجارَها، ورحل عنها، واستخلف على حصارها بِطريقًا يقال له: البرجي، وسار إلى القُسْطَنْطينية فمات بها، وفتح البرجي أنطاكية.
ذكر ما جرى لابن بَقيَّة:
لما أقام عضد الدولة ببغداد ينتظر جواب أبيه استمال ابنَ بَقيَّة، وقَرَّبه، وجعله برسْم وزارة الأمير أحمد بن عضد الدولة، وخيَّره فيما يريد من الأعمال، فاختار واسِطًا وتكريت وأَوانا، فأعطاه ذلك، وخلع عليه الخِلَع السُّلطانية، وحمله على فَرَسٍ بمركب ذهب، وأعطاه في كل سنة خمسَ مئة ألف درهم إقطاعًا، وضمَّ إليه جماعةً من الدَّيْلَم والقُوَّاد.
(١) التِّجْفاف: آلة للحرب يُلْبَسُه الفرس والإنسان ليقيه في الحرب.