لأعطلن مدارسهم من كتبي، ولأُخْلِيَنَّ مجالسهم، ولأُوحِشَنَّ مساجدهم من عُمَّارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتعبدون فيها لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العمل، ولأبدلن مُلوكهم بالعزِّ ذلًا، وبالأُنس خوفًا، وبالغنى فقرًا، وبالشبع جوعًا، وبالعافية ألوان البلاء، وبلبس الحرير مدارع العباء، وبالأرايح الطيبة جيف القتلى، وبتيجان الذهب أطواق الحديد، وبالقصور الواسعة أنواع الخراب، ولأُبْدِلَنَّ نساءهم من الخدور بالسَّحب على الوجوه، ولآمرن السماء فتكون طبقًا من حديد، ولآمرن الأرض فتكون صفحة من نحاس، وذكر كلامًا كثيرًا طويلًا.
فلما سمع إرميا هذا قال: سبحانك يا ربَّنا إنَّك مُهلك هذه القرية، وهي مساكن أنبيائك، ومَهبط وحيك، وإنك لمتلف هذه الأمة، وهم ولد خليلك، وأمّة موسى نجيِّك، وقوم داود صفيِّك، يا رب فأي القرى يأمن مكرك بعد أُوْرِيْ شَلِم، وأي العباد يأمنون سطوتك بعد أولاد أنبيائك؟
فأوحى الله إليه: يا إرميا، إنما أكرمت أولئك بحفظهم لطاعتي ولو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين، ولو أن قومك حفظوا حرمتي وراعوا عبادي، الأرملة واليتيم والمسكين وابن السبيل، لكنت الراحم لهم، ولكنهم يتجاهرون بالمعاصي في الأسواق، وبيوت العبادات، ورؤوس الجبال، وتحت ظلال الأشجار، حتى عجَّتِ السماء إليَّ، واستغاثت الأرضُ والجبال والطير والوحش منهم.
فأبلَغهم إرميا رسالة ربهم فكذَّبوه وعذَّبوه وقالوا: عظَّمت الفِرْيةَ على الله، تزعم أنه مخربٌ مسجده، ومعطلٌ بيوتَ عبادته وقراءةَ كتابه، فمن يعبده بعد ذلك؟ ثم قيَّدوه وحبسوه، وهذا قول وهب.
وأما ابن إسحاق فقال: أوحى الله إلى إرميا إني مهلك بني إسرائيل بولد يافث وهم ببَابِل، فبكى ومزَّق ثيابه وحثا الرماد على رأسه، فأوحى الله إليه: أشقَّ ذلك عليك؟ فقال: يا إلهي، وكيف لا يشق عليَّ إهلاك قومي؟ فقال الله تعالى: وعزَّتي لا أُهْلِكهُم حتى يكون الأمر من قِبَلِك فطابت نفسه، وأخبرَ المَلِك ناشئة فاستبشر، وأقام بعد هذا ثلاث سنين، فازداد طغيانهم، فبعث الله إلى إرميا مَلَكًا في صورة آدمي فقال: يا نبيَّ الله جئت أستفتيك في أهلي، أحسنتُ إليهم ولم يزدهم إحساني إلا إساءَةً فَأفتني فيهم،