وسار جوهر في عسكرٍ كَثيفٍ بعد أن أخذ من العزيز أمانًا لهفتكين، وخاتمًا، ودستًا من ثيابه، وكتابًا إليه بالعفو عنه، فلما حصل جوهر بالرَّمْلَة كاتب الهفتكين بالرِّفْقِ والمُلاطَفة، ودعاه إلى السِّلْم والطَّاعة، ووعده أن يُبَلِّغَه ما يُريد، وأعلمه بما معه من الأمان، فأجابه بالجميل والشُّكرِ على ما بذله، وغالطه بأن أحال على أهل دمشق.
وسار جوهر وقَرُب من دمشق، فخرج إليه الهفتكين في أصحابه ومَن جمعه من العرب، وأقامت الحربُ بينهم شهرين، وقُتل من الفريقين عددٌ كثير، وظهر من شجاعة الهفتكين والغلمان الذين معه ما عَظُموا به في النُّفوس، وتَقَرَّرت لهم الهَيبةُ في القلوب، وأشار عليه أهلُ دمشقَ بمكاتبة الحسن بن أَحْمد القِرمطيّ، واستدعائه إلى الشَّام، وعرف جوهر خبره، فعلم أنَّه متى حَصل بين عدوَّين خِيفَ عليه، فرجع إلى طَبَرَيَّة.
ووصل القرمطي إلى هفتكين، واجتمعا، وتعاهدا على قتال جوهر، وسارا خلفه، فسار من طَبريَّة إلى الرَّمْلَة، فأقام بها، وبعث بأثقاله إلى عَسْقَلان، وكتب إلى العزيز يُعرِّفه الصورة، ويَستأذنه إن دَعَتْه الضَّرورةُ قَصْدَ عَسْقلان.
ووافى الهفتكين والقرمطي فنزلا على الرملة، ونازلا جوهرًا، وكان معهما خمسون ألفًا من الفُرسان والرَّجَّالة، وكان القتال على نهر الطَّواحِين، بينه وبين الرملة ثلاثة فَراسِخ، ولا ماءً لهم إلَّا منه، فقطعاه عن جوهر، فتَضرَّر عسكرُه، فسار إلى عَسْقلان في أول الليل، فوصل إليها في آخره، فدخل إليها، وأغلق أبوَابَها، وتَحصَّن بها.
وتبعه الهفتكين والقرمطي، وحاصراه فيها، وضاقت به الميرة، وغَلَت الأسعار، وكان الوقتُ شتاءً فلم يُمكن حَملُ الأقوات في البحر، واشتدَّ الحالُ بجوهر، وأكل أصحابُه الدَّوابّ والميتة، وكان يخرج فيقاتل، فإذا وَجَد فُرصةً من الهفتكين دعاه إلى الطاعة وأرغبه، فيسترجع الهفتكين شجاعته، ويَهمُّ أن يَقبلَ منه (١)، فيَثْنيه القرمطي، وكاتب الهفتكين رجلًا يقال له: ابن الخَمَّار، وكان يُخالف اعتقادَ المصريّين ويقول: هؤلاء كفَّار ويجبُ قتالُهم.
(١) في تاريخ دمشق لابن القلانسي ٣٢: فيسترجعه الفتكين ويسترجله ويهم أن يقبل منه، وانظر الكامل ٨/ ٦٥٨.