وكان يُعطيهم الأموال، ويُدنيهم، ويُجالسهم، وكان ينظر بنفسه في المصالح والإقامات، والحقير من المال مثل الكبير، فلا يُطلق دِرهمًا في غير وجهه، ولا يمنع أحدًا ما يَستحِقُّه.
وقال لبعض كتَّابه وقد بقي في الشهر ثلاثة أيام: ادفع للغلمان جامكياتهم، فأُنسي الرَّجل حتَّى خرج الشهر، فاستدعاه وسأله فقال: أُنسيتُ، فغضب وقال: المصيبةُ أنك ما تعلم ما في فعلك من الغَلَط؛ نحن إذا أطلقنا لهؤلاء الغلمان ما لهم وقد بقي في الشهر يوم كان لنا الفَضلُ عليهم، والإحسانُ إليهم، فإذا دخل في الشهر الثاني يومان أو ثلاثة رَأَوْا لهم المِنَّةَ علينا، فإن تَفضَّلوا بالصبر فنكون معهم إلى الخسارة أقرب من الرِّبْح.
وجاء بعض الدَّيالمة -وكان قائدًا كبيرًا - ومعه صَكٌّ إلى كاتبٍ لعضد الدولة، وبيده كتاب لعضد الدولة يكتبه، فقال الدَّيلمي: اكتُب لي في هذا الصَّكّ، فقال: ما أتفرَّغُ لك اليوم، أنا مشغولٌ بكتاب الملك، فأخذ الكتابَ من يده ورماه وقال: اكتب لي في صَكّي، وبلغ عضدَ الدولة الخبر، فأمر بعضَ حُجَّابه أن يَجُرَّ الدَّيلميَّ برجله إلى باب البلد، ويُنفى إلى دَيلَمان، ففعل به ذلك وأخذ أمواله.
ولما جاء إلى بغداد قال له إبراهيم الصابئ: أخاف على داري من الدَّيلَم، فأرسل معه بعضَ الدَّيالمة وقال: امنع مَن ينزل عنده، فجاء الرَّجل، فقعد على الباب، وعَرض له شُغلٌ فقام، وجاء بعض الديالمة، فنزل في الدار وفَرَشَها وقال: صَلُحت لي الدار انتقلوا، وجاء الرَّجل فقال له: الملك أمر أن لا يَنزل ها هنا أحد، فقام من ساعته، ونقل قُماشه وخرج.
وبعث عضد الدولة صاحبًا له يُصلح طريقَ مكة ومعه جمال وآلات، فخرج عليه قومٌ من العرب، فأخذوا الجِمال وبقي جملٌ واحد عليه الكاتب راكب، وعليه قَفَصٌ فيه فاخِتة، فقال له زعيم القوم: ما هذا الطُّوَير؟ فقال: طائرٌ أعطاني إياه عضد الدولة وقال: إذا خرج عليكم أحدٌ من العرب فأطلقوه لأعرفَ خَبرَكم، فأبعثَ العساكرَ إليكم، فقال الرَّجل: أمسكْ يَا إنسان الطائرَ ولا تُطلقه، وردَّ جميعَ الجمال وما أخذ منهم.
وكان عضد الدولة قد حَمى البلاد من مناحية، وأباد الأكراد والأعراب والمفسدين، واستأصل شأفَتَهم.