للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما انقضت المئة سنة أحياه الله، فقام ينظر إلى عظام حماره وهي بيض تبرق، فسمع صوتًا من السماء: أيتها العظام المتمزقة إنَّ الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمعت واكتست لحمًا وجلدًا، وقام الحمار ينهق، ونودي من السماء: يا إرْمِيا، كم لبثت؟ قال: يومًا أو بعضَ يوم، وكان قد مات وقت الضحى وعاش قبل مغيب الشمس، فالتفت فرأى بقية الشمس، فقال: أو بعض يوم، فكان يظن أنها قد غربت، فلهذا قال: يومًا، فلما رآها لم تغرب قال كذلك، فقيل: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] أي: لم يتغيَّر، فلم يحمض العِنَب والتين ولم يتغيَّر العصير. وقال الجوهري: التسنُّهُ: التَّكَرُّجُ الذي يقع على الطعام والشراب والخبز (١). ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ [البقرة: ٢٥٩] كيف تمزَّقت أوصاله فأعادها الله.

فإن قيل: فلم بلي الحمار ولم يتغيَّر الشراب والطعام، ولم يحمض العصير، قلنا: لو تغيَّر الطعام لتلاشى وانعدم ولم يبق له أثر، وأما الحمار فاستدلَّ بإحيائه على إحياء بيت المقدس وعوده إلى ما كان عليه.

فإن قيل: فهلا قال: وانظر إلى نفسك، ولم يقل: إلى حمارك، قلنا: معناه: انظر إلى حمارك الذي ربطته واقفًا على هيئته.

﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢٥٩] أي: عبرة ودلالة على البعث. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وقال أبو جعفر الطبري: إنَّ إرْمِيا لبث في نومه إلى أن هلك بُخْتَ نَصَّر، وكان قد عاش ثلاث مئة سنة - يعني بُخْتَ نَصَّر - وبعث الله عليه بعوضةً فقتلته، وهلك المَلِك الذي كان قبله وهو لُهراسب، وقام ولده بشتاسب، فبلغه خراب البيت المقدس، فجمع بني إسرائيل وملَّك عليهم رجلًا من آل داود وأمره بعمارة بيت المقدس أحسن ما كان، فعمره، وردَّ الله روح إرميا إليه.

وقال وهب: عُمِّرَ إرميا، وهو الذي يُرى في الفلوات، ويقال إنه الخضر (٢).

والثاني: أنَّ الذي مرَّ على بيت المقدس العُزَير ، وعليه الأكثرون، وهو


(١) "الصحاح" (سنه)، وتكرج: فسد.
(٢) انظر "تاريخ الطبري" ١/ ٥٤٤، و "تفسير الطبري" ٤/ ٥٩٣.