للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا مُهذّب الدولة أبو الحسن علي بن نصر صاحب البَطِيحة فإنه جهَّزَ القادرَ جَهازَ مِثْلِه، وحمل إليه من المال والثياب والفُرُش والآلات شيئًا كثيرًا، وأعطاه طيارًا كان بناه لنفسه، وشيَّعه وعاد، وقال أبو القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مُهذِّب الدولة: لمَّا ورد القادر إلى عندنا إلى البَطِيحة كُنْتُ أغشاه في بعض الأوقات، يُدنيني منه، ويُباسطني، وكنتُ أجتهد في تقبيل يده فلا يُمكِّنني، فلمَّا كان في بعض الأيام دخلتُ عليه فوجدتُه باهتًا ساهيًا، ولم أرَ منه من الإكرام ما أعهَدُه، ورُمْتُ تقبيلَ يده فمدَّها إليَّ فقبَّلتُها، وشاهدتُ من أمره خلافَ ما كُنْتُ أعهَدُ، فقلت: أتوذِنُ في الكلام؟ قال: قل. قلت: أرى اليوم فيك من الانقباض عني ما قد أوحشني، فإن كان ذلك لِزَلَّةٍ مني فمن حُكْمِ التفضُّلِ إشعاري بما بدا مني، لأطلب للعذر مخرجًا. فقال: ليس الأمر على ما ظننتَ، ولكن اسمَعْ، رأيتُ البارحةَ في منامي كأن هذا -وأومأ إلى نهر الصَّليق- قد اتَّسع حتَّى صار مثل عرض دِجْلةَ دفعاتٍ، وأنا مُتعجِّبٌ، فمشيتُ على جانبه متَأمِّلًا أمرَه ومُطْرِقًا (١) لعِظَمِه، وإذا بقواعد قنطرة عظيمة، فقلت في نفسي: تُرى مَن قد حدَّث نفسَه بعمل قنطرةٍ على مثل هذا البحر الكبير، وصعِدْتُ عليها، وإذا بها وثيقةٌ محكمة، ومددتُ عيني، وإذا بإزائه مثله، فبينا أنا واقف وإذا بشخص من ذلك الجانب، فناداني: يا أحمد، تريد أن تعبر؟ قلت: نعم، فمدَّ يده حتَّى وصلت إليَّ، وأخذني فعبرني، فهالني، فقلت له: بالله من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، وهذا الأمر صائرٌ إليك، ويطولُ عمرك فيه، فأحسِنْ إلى ولدي وشيعتي. قال: فما انتهى القادرُ إلى هذا المكان حتَّى سمِعْنا صياحَ ملَّاحين (٢) وضجيجَ ناس، فقلت: ما هذا؟ وإذا برسل بهاء الدولة، وفيهم أبو علي الحسن بن محمد بن نصر، وقد وردوا ليأخذوه إلى دار الخلافة، وإذا معهم قطعةٌ من أُذن الطائع، فقبَّلتُ يدَه ورجلَه، وخاطبتُه بإمرة المؤمنين، وبايعتُه، وكان من إصعاده وإصعادي معه ما كان. وكتب القادر إلى بهاء الدولة بعد البسملة: من عبد الله أحمد الإمام القادر بالله أمير المؤمنين إلى بهاء الدولة


(١) في المنتظم: ومستظرفًا.
(٢) المثبت من (ب)، وهو الموافق لما في الكامل ٩/ ٨١، ووقع في (خ): ملَّاكين، وفي المنتظم ١٤/ ٣٥٠: الفلاحين، وما أثبتُّه هو الأولى بسياق الكلام، والملَّاح: هو السفان الَّذي يوجِّه السفينة. المعجم الوسيط (ملح).