للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال: وكان العذاب على رؤوسهم قدر ثلثي ميل (١).

وثار عليهم دخان أسود، فعاينوا الموت، ثم كشفه الله عنهم. فإن قيل: فلم كشف الله العذاب عن قوم يونس دون غيرهم من الأمم ولم يقبل توبة فرعون؟ فالجواب من وجوه:

أحدها: لأن الله علمَ منهم صدقَ النيَّات. ألا ترى إلى فرعون لما عاين الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس: ٩٠] فلم يخلص النيَّة وقد باشره العذاب، وهؤلاء لم يباشرهم، ذكره الزجاج.

والثاني: لأنَّ الله تعالى خصَّ قوم يونس بذلك لما أقنطهم يونس من رحمة الله تعالى وكما قال: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ [يونس: ٩٨]، ذكره ابن الأنباري (٢).

والثالث: لأنَّ القوم افترقوا ثلاث فرق: الشيوخ، والشباب، والصبيان والنساء، فجاء العذاب فوقف على رؤوس الشيوخ فقالوا: اللهم إنك أموتنا أن نعتق أرقاءنا، ونحن أرقاؤك فأعتقنا. فانتقل إلى رؤوس الشباب فقالوا: اللهم إنك أموتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنا. فانتقل إلى رؤوس الصبيان والنساء فقالوا: اللهم إنك قد علمتَ ضعفنا وعجزنا فأنت أولى من رحمنا. وتضرَّع الأطفال فرحمهم الله تعالى.

والرابع: أنه بقيت من آجالهم بقية كما قال مجاهد، وهو الأصحُّ، فإنَّ من انقضى أجله لم ينقعه إيمانه. والدليل عليه ما رواه أبو حنيفة ابن النُّوبي في كتاب "الأسولة" قال: قال بعض الأنبياء: إلهي، لم رفعت العذاب عن قوم يونس وأهلكت قومي؟ فقال الله تعالى: لأن آجال قومك فنيت، وقوم يونس لم تفن آجالهم.

وأنبأنا شيخنا الموفق بإسناده الماضي في أول الفصل إلى إسحاق بن بشر قال: حدثنا جُوَيبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أيس يونس من إيمان قومه دعا ربَّه عليهم فقال: اللهم أنزل عليهم نقمتك. وخرج ومعه ابنان صغيران، فصعد


(١) انظر "عرائس المجالس" ص ٤١١.
(٢) انظر "التبصرة" ١/ ٣٢٩، وزاد المسير ٤/ ٦٦.