للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا غربتِ الشمسُ أظلمَ المكانُ، فيُغافلهم بعضُ الأقِسَّاء، ويفتح طاقةً من زاوية القُبَّة بحيث لا يراه أحد، ويوقد شمعةً من بعض القناديل، ويصيح: قد نزل النور، ورضي المسيح. وتخرج الشمعةُ من بعض الشبابيك، فيضِجُّون ضجَّةً عظيمةً [ويقولون: نزل النور]، ويوقدون الفوانيس، ويحملون هذه النارَ إلى عكا وصور وجميع بلد الفرنج، حتى رومِيَّة والجزائرِ، وقسطنطينيةَ وغيرِها؛ تعظيمًا لها.

وحدثني جماعةٌ من المجاورين بالقدس، قالوا: لمَّا فتح صلاح الدين القدسَ وجاء يوم الفِصْحِ، جاء بنفسه فدخل القُبَّة [التي فيها القبر] وقال: أريد [أن] أشاهدَ نزولَ النور. فقال له البطرك: تُريد أن تضيِّع علينا وعليك أموالًا كبيرةً (١) بقعودِكَ عندنا، فإنْ أردتَ المال فقُمْ عنَّا. فقام، فما بلغ بابَ القُبَّة حتى صاحوا [وقالوا]: نزل النور. فقال بعض الحاضرين: [من الطويل]

لقد زعمَ القِسِّيسُ أنَّ إلهَهُ … يُنَزِّلُ نورًا بُكرةَ اليومِ أو غَدِ

فإن كانَ نورًا فَهْو نورٌ ورحمةٌ … وإنْ كانَ نارًا أحرقَتْ كلَّ مُعتدِ

يُقَرِّبُها القِسِّيسُ من شَعْرِ ذَقْنِهِ … فإنْ لَمْ تُحرِّقْها وإلَّا اقْطعوا يَدي

وحدثني جماعةٌ من أصحاب صلاح الدين أنَّه عزم لمَّا أخذ الفرنجَ على أن يُخرِّبَ قُمامة ويُعَفِّي أثرَها، فقال: نُحضِرُ البطركَ والأقِسَّاءَ والنصارى، ونحفِر مكانَ القبرِ حتى يطلع الماء، ونرمي الترابَ في البحر، ونقول: هذا ترابُ قبرِ إلهكم؛ لتنقطع أطماعُهم عن زيارته ونستريحَ منهم. فقال له أعيان دولته: إنَّ أطماعَهم لا تنقطع بهذا، وليس مُرادهم مكانَ القبر، إنما هم يعتقدون في نفس القدس، وقُمامةُ عندهم أفضلُ من غيرها، وربما أخربوا الجامع الذي بالقُسْطَنْطينية والمساجدَ التي في بلادهم، وقتلوا مَنْ عِنْدَهم من المسلمين، ثمَّ إنهم إنما يصانعونك على القدس لأجل قُمامة، فإذا فعلت ذلك زال ما يصالحونك لأجله (٢)، ثمَّ تبطل عليكَ أموالٌ عظيمة، فتنضرُّ وهم لا ينضرُّون. فسكت عن خرابها.

ولم يَحُجَّ في هذه السنة أحد.


(١) هكذا في (خ)، وفي باقي النسخ: عظيمة.
(٢) في (م ١): زال ما يصانعونك عليه أو لأجله!.