للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القاهرة، ونزل في قصره، واستدعى القُوَّادَ والعُرفاءَ، وأمرَهم بالمسير إلى مصر، وضربها بالنار ونهبها، وقتل مَنْ ظفروا به من أهلها، فتوجَّه إليها العبيدُ والرومُ والمغاربةُ وجميعُ العساكر، وعلِمَ أهلُ مصر، فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسِهم، وأوقعوا النارَ في أطراف البلد، واستمرَّت الحربُ بين العبيد والعامَّة والرعية ثلاثةَ أيام، والحاكمُ يركبُ في كلِّ يومٍ إلى القَرافة، و [يطلعُ إلى] (١) الجبل، ويشاهدُ النار، يسمعُ الصياحَ ويسألُ عن ذلك، فيُقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيُظهِرُ التوجُّعَ ويقول: لعنَهم اللهُ، مَنْ أمرهم بهذا؟! فلمَّا كان اليومُ الرابع اجتمع الأشراف [والعلماء] والشيوخ إلى الجوامع، ورفعوا المصاحف، وضجُّوا (٢) بالبكاء، وابتهلوا إلى الله بالدعاء، فرحِمهم العامَّة والأتراك والمشارقة، ورَقُّوا لهم، فانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم، وكان أكثرُهم مخالطًا لهم، ومُداخِلًا ومصاهِرًا، وانفرد العبيد، وصار القتالُ معهم، وعظُمتِ القِصَّةُ، وزادتِ الفتنةُ، واستظهرت كُتامةُ والأتراكُ والمشارقةُ عليهم، وراسلوا الحاكم، وقالوا: نحن عبيدٌ ومماليكٌ، وهذا البلد بلدُكَ، وفيه حُرَمُنا وأموالُنا وأولادُنا وعقارُنا، وما علِمْنا أنَّ أهله جنَوا جنايةً تقتضي سوء المقابلة، وتدعو إلى مثل هذه المعاملة، فإن كان هناك باطنٌ لا نعرفه فأخبِرْنا به، وأنظِرْنا حتى نُخرِجَ عيالنا وأموالنا منه، وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفًا لرأيِكَ فأطلِقْنا في معاملتهم بما يُعامَلُ به المفسدون والمخالفون، فأجابهم بأنه ما أراد ذلك، ولعنَ الفاعلَ له، والآمِرَ به، وأنتم على الصواب في الذبِّ عن المِصريين، وقد أذنتُ لكم في نصرتهم والإيقاع بمن تعزَض لهم. وأرسلَ إلى العبيد سرًّا يقول: كونوا على أمركم. وحمل إليهم سلاحًا قوَّاهم به، وكان غرضُه في هذا أن يطرح بعضًا على بعض، وينتقم من فريقٍ بفريق، وعَلِمَ القومُ بما فعَلَ، فراسلَتْه كُتامَةُ والأتراكُ: قد عرفنا غرضَكَ، وهذا هلاكُ هذا البلد وأهلِه وهلاكُنا معهم، وما يجوز أن تُسلِّم بنفوسنا والمسلمين لفتك الحريم وذهاب المُهج، ولئن لم تكُفَّهم لنُحرِّقَنَّ القاهرة، واستنفرتِ العربُ وغيرُهم، فلمَّا سمع الرسالة -وكانوا قد استظهروا على العبيد- ركب حمارَه، ووقف بين الصفين، وأومأ إلى العبيد بالانصراف،


(١) ما بين حاصرتين من النجوم الزاهرة ٤/ ١٨١.
(٢) في (خ) و (ف): وعجُّوا، والمثبت من (م) و (م ١)، وهو الموافق لما في النجوم الزاهرة.