والي الرملة، فقال: ليس لي طاقة. فكتب إلى مصر، فأمر بحمله إليها، فأقام على باب الديوان مطالبًا، وخرج النَّاس إلى الحجِّ، فسأل السيدةَ والدة المستنصر بالله أن تفسح له في الحج، فأذِنَتْ له في الإشراف على خزانتها الخارجة إلى مكة، فحجَّ وعاد إلى المدينة، فزار قبرَ رسول الله ﷺ، وجلس يدعو، فسقطت على كتفه من حائط حجرة النَّبِيّ ﷺ قطعةٌ من الخَلوق (١) الذي عليه، ورأى ذلك أحد الخُدَّام، فجاء إليه وقال له: يُهنيك ولايةٌ كبيرة جليلةٌ، تملك بها أمور المسلمين. قال: ومن أين لك هذا؟ فقال: هذه عادة هذا الحائط إذا وقع منه قطعة على أحد، فعاهِدْني على ما تفعله معي إذا صحَّ ذلك. فقال: مهما شئتَ. وعاد إلى مصر فلم يَحُلِ الحولُ عليه حتَّى تقلَّد الوزارة، ووفَّى للخادم بما ضمن له، وصارت له بالمسجد وساكنيه عناية عظيمةٌ، ومراعاةٌ شديدة.
وقال ابن الصابئ: وفي العشر الآخر من ذي الحجة قُبِضَ بمصر على الوزير أبي محمَّد الحسن بن عبد الرَّحْمَن البازوري وعلى ثمانين نفسًا من أصحابه، وقُرِّر عليه ثلاثةُ آلاف أَلْف دينار، وعلى ابن زكريا القاضي -وكان خِصِّيصًا به- مئةٌ وخمسون أَلْف دينار، ومن أبي الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي مثلُه، ومن قرابته خمسون أَلْف دينار، واختلفت الروايات في سبب ذلك، وكانت فيه سماحةٌ وكرمٌ وجودٌ وسَعةُ صدر، وله ألقاب كثيرة: الناصر لدين الله، غياثُ المسلمين، الأوحد، الأجَلُّ، سيد الوزراء، وتاج الأصفياء، وقاضي القضاة، وداعي الدُّعاة، وعلم المجد، خليل أميم المُؤْمنين وخاصته، أبو الفرج البابلي، صاحب الديوان لتنفيذ الأمور. وكان البازوري حنفيَّ المذهب.
وقال أبو يوسف القزويني: التقاني يومًا وهو متوجِّهٌ إلى الديوان، فلما رآني وقف، فوقف النَّاس لأجله، فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إليكَ. قال: في أيِّ شيء؟ قلت: قصدني النَّاس في حوائج التزمتُ قضاءها. فقال: لا أبرحُ من مكاني حتَّى تذكرها. فجعلتُ أذكر له حاجةً حاجة وهو يقول: نعم وكرامة، حتَّى قال في الحاجة الأخيرة: السمع والطاعة. ومضى، فانفرد أميرٌ كان معه إلي وقال لي: أيُّ شيء أَنْتَ؟ قلت: لا شيء. قال: لا شيء، يقول له الوزير: السمع والطاعة، عرِّفني ما أَنْتَ؟ قلت: من أهل العلم. فقال: استكثِرْ مما معك، فإنَّه إذا كان في شخص أطاعَتْه الملوك.
(١) الخَلوق: ضرب من الطِّيب يُتَّخذ من الزعفران. تاج العروس (خلق).