السلطان قبَّلَ الأرض دفعاتٍ كثيرة، ونُصِبَ له كرسيٌّ دون السرير لطيفٌ، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: أصعِدْ ركن الدولة إليه، وأصعِدْ معه محمَّد بن منصور الكُنْدُري مفسِّرًا له ومعبِّرًا عَنه. فصَعِدا، وقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قُلْ لركن الدين: أمير المُؤْمنين حامدٌ لسعيك، شاكرٌ لفضلك، زائدُ الشغف بك، وقد ولَّاك جميعَ ما ولَّاه الله من بلاده، وردَّ إليك مراعاةَ عبادة، فاتَّقِ الله فيما ولَّاك، واعرِفْ نعمته في ذلك، واجتهِدْ في عمارة البلاد، وصلاح العباد، ويسِّر العدل، وكُفَّ الظلم. ففسَّر له عميدُ الملك القول، فقام وقبَّل الأرض، وقال: أنا خادم أمير المُؤْمنين وعبدُه ومتصرِّفٌ على أمره ونهيه، ومتشرِّفٌ بما أهَّلني به واستخدمني فيه، ومن الله أستمدُّ المعونة والتوفيق.
ثم أذن أمير المُؤْمنين أن تُفاض (١) عليه الخِلعُ، فنزل إلى بيتٍ في جانب البهو، وخلع عليه الخلع المعهودة، وعاد فجلس بين يدي الخليفة، ومنعه التاج أن يُقبِّل الأرض، وقلَّده الخليفةُ سيفًا، وخاطبه بملك المشرق والمغرب، وزاده لواءً ثالثًا عقده بيده، وأحضر العهدَ وقال: ليُسلَّمْ إليه. وقُرِيء صدرٌ منه، وقال له: اعمَلْ بموجبه. ثم قال: آمرك بما أمرك الله به، وأنهاك عما نهى الله عنه، وهذا منصور بن محمَّد نائبُنا لديك، وخليفتُنا عندك، فاحتفِظْ به، وارْعَه فإنَّه الثقة الأمين، انهض -على اسم الله تعالى- مصاحَبًا محروسًا. فسأله مصافحته، فأعطاه يده فقبَّلها ووضعها على وجهه دفعتين، وخرج والأكابر بين يديه، ورُفعت الألويةُ من سطح صحن السلام، وخطب من الرَّواشن لئلا يكسر في الأبواب، وجلس للهناء، وبعث في اليوم الثالث للخليفة خمسين غلامًا أتراكًا على الخيول بالسيوف والمناطق، وعشرين رأسًا من الخيل، وخمسين أَلْف دينار، وخمس مئة ثوب أنواعًا، ولرئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبًا.
وفي ذي الحجَّة قبض صاحبُ مصر على وزيره أبي محمَّد الحسن بن عبد الرَّحْمَن اليازوري وعلى ثمانين من أصحابه، وقُرِّرت عليهم أموالٌ عظيمة، وكتب خطة بثلاثة آلاف أَلْف دينار، وأصله من يازور؛ قريةٍ بالساحل من أعمال الرملة، وترامت به الحال إلى أن صار قاضيها، وله بها أملاك نفيسة، فاتَّفق أنَّه لحقها أمرٌ عجز به عن ارتفاعها، ولم يوفِ للسلطان ما يجب له عليها، وأدى البعض، وبقي البعض، فطالبه مُعِزُّ الدولة