وحمل إلى ألب أرسلان، فسُرَّ به سرورًا عظيمًا، وبعث خلف نظام الملك وكان بأصبهان، فخرج منها مُستهلَّ صفر، ومعه مسلم بن قريش في الخدمة، وورد كتابٌ من هَمَذان فيه أنَّ ألب أرسلان سقط من الفرس بين أصبهان وشيراز، فوقع في نفسه أن ذلك مقابلة فعله بأهل هَمَذان، فكتب إلى أبي محمد الدِّهِستاني الناظر فيها برفع الضرائب والمكوس، وأن يُحسن إلى أهل البلد، ويردَّ ما أخذه منهم، فأخفى الكتاب وقال: إذا بطلت المكوس، ورددتُ ما أخذتُ، فأيُّ ارتفاع يبقى في يدي أحمله إلى الخزانة وأصرفه في مصالح السلطان؟ فطرقته الخوانيق في حلقه فمات، ووجد الكتاب في تركته، فقال أهلُ هَمَذان: إنَّ هذا الذي لحقه عقوبةً له على سوء نيته فينا.
وورد الخبرُ أن عطية بن الزَّوقلية صاحب حلب استدنى بُرَّجان (١) التركماني ومن معه من الغُزِّ، وكانوا نحو خمس مئة غلام، وقرَّر لهم في كل شهر أحدَ عشر ألف دينار، وأنزلهم بالحاضر ظاهر حلب، وكانوا في الثغور متردِّدين، وبما يأخذونه من الروم عن كفِّ الأذية عن أعمالهم متقوتين، وفعل عطية ذلك لمَّا تواتر من قصد محمود ابن أخيه، ومظافرة بني كلاب لهم، ثم ثار أحداثُ حلب عليهم، وقتلوا منهم في البلد جماعةً بأمر عطية؛ لأنه خاف منهم، ومضى بُرَّجان ومَنْ سَلِمَ معهم إلى محمود بن شبل الدولة خصم عطية.
وفيها ورد كتاب ملك الروم إلى الوزير ابن جَهير، فكان منه: لقد كثُر تعجُّبُنا -أطال اللهُ بقاءَ الوزير الخطير والبشير، حسن الأثير- كيف رأى استعمال الصمت وإهمال المكاتبة طول هذا الزمان، وما تحرَّك لتجديد العهد بنا بالمناجاة والمخاطبة مع ما هو متجمِّلٌ به من الأدب الزائد، والعقل الراجح الفائض، والحِجا المستوثق الطائل، لكنا وإن كان الوزير -أدام اللهُ كفايتَه- لما قد احتفَتْه من المهمات، ونِيطَ به من التدبُّرات، لم يتمكن ممَّا ذكرناه، فنحن لم نتمكَّن من الصبر هذه المدة عن مكاتبته، بل أصدرنا هذا الكتاب مستعلمين خبرَه وجريَ الأمور بساحته، وذكر كلامًا بمعناه، وبعث الوزيرُ بالكتاب وكتاب آخر إلى ألب أرسلان يسير بالهدية وتقريرها والجواب عنها.