للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحاصرتُهم وأخذتُها منهم وسلَّمتُها إليك، فأما القوم فلا يسمعون مني، وأمَّا أسارى المسلمين فالسمع والطاعة، إذا وصلتُ سرَّحتهم وفعلتُ معهم الجميل. فأمر السلطان بفَكِّ قيوده وغلِّه، ثم قال: أعطوه قدحًا ليسقينيه، فظنَّه له، فأراد أن يشربه، فمُنع وأُمر بأن يخدم السلطان ويناوله القدح، فأومأ إلى تقبيل الأرض، وناول السلطانَ القدح فشربه، وجَزَّ شعرَه، وجَعلَ وجهَه على الأرض، وقال: إذا خدمتَ الملوكَ فافعل كذا.

وإنما فعل السلطان ذلك لسبب اقتضاه، وهو أنَّ السلطان لمَّا كان بالري وعزم على غزو الروم، فقال لفرامرز بن كاكويه: هو ذا، أمْضي إلى قتال ملك الروم، وآخذه أسيرًا، وأُوقِفُه على رأسي ساقيًا. فحقَّقَ الله قولَه، واشترى جماعةً من البطارقة، واستوهبَ آخرين، فلمَّا كان من الغد أحضره السلطان وقد نصب له سريره ودَسْتَه الَّذي أُخذ منه، فأجلسه عليه، وخلع عليه قَباءَه وقَلَنْسوته، وألبسه إيَّاهما بيده، وقال له: قد اصطنعتُكَ، وقنعتُ بأمانتك، وأنا أسيِّرُك إلى بلادك، وأردُّك إلى ملكك. فقبَّل الأرضَ، وكان لمَّا بعث الخليفةُ ابنَ المحلبان إليه أمر بكشف رأسه، وشدِّ وسطه، وأن يُقبِّل الأرض بين يديه، فقال له السلطان: ألستَ الفاعلَ بابن المحلبان رسول الخليفة كذا وكذا؟ فقُمِ الآن واكشِفْ رأسَكَ، وشُدَّ وسطَكَ، وأومئ إلى ناحية الخليفة، وقَبِّلِ الأرض. ففعل، فقال السلطان: إذا كُنْتُ أنا وأنا أقلُّ الملوك الذين في طاعته فعلتُ بِكَ ما فعلتُ وأنا في شرذمةٍ من جندي وقد حشدتَ دين النصرانية، فكيف لو كتبَ الخليفةُ إلى ملوك الأرض يأمرهم فيكَ بأمر؟ وعقد له السلطان رايةً فيها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأنفذ معه حاجبين ومئة غلام، فوصلوا به إلى القسطنطينية، وركب معه وشيَّعه قَدْرَ فرسخ، فأراد أن يترجَّل، فمنعه السلطان وحلف عليه، وضمَّه إليه، وتعانقا، وعاد السلطان عنه (١).

ثم حكى ملك الروم وقال: العادة الجارية أن الملك الخارج من القسطنطينية إذا أراد الخروج إلى حرب دخل البِيعة الكبرى، واستشفع بصليب ذهب بها مُرصَّعٍ باليواقيت. قال: فدخلتُ البِيعة لمَّا عزمتُ على هذه السَّفرة، واستشفعت إليه، وإذا بالصليب قد زال عن موضعه إلى القبلة الإسلامية، فعجبتُ من ذلك، وسوَّيتُه إلى


(١) ينظر هذا الخبر بنحوه في المنتظم ١٦/ ١٢٣ - ١٢٨.