للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجرى له [مع] (١) ابن عقيل من جِنْس هذا، فكتب إليه فصولًا يُعتبه فيها، وذكرها في كتابه المسمى بالفنون، فمنها أنه قال: هذه مكاتبة إلى أبي الحسن بن الدَّامَغَاني تتضمَّنُ تنبيهًا له على خِلالٍ قد سَوَّلَتْ له نَفْسُه استعمالها، فهدمَتْ من مَجدِ منصبه ما لا يتلافاه على طول الوقت في مستقبل عمره، عَذِيْري (٢) ممن نشأ في ظلِّ والدٍ مُشْفِقٍ عليه، قد حَلَبَ الدَّهْرَ شَطْرَيْه (٣)، وأتلف في طلب العِلْم أَطْيَبَيْه (٤)، أجمعَ أهلُ عَصرهِ على كمالِ عقله - يعني: أبا عبد الله - كما أجمع الفقهاء والعلماء على غَزَارة عِلْمه، تقَدَّم في الدولة التركية المعظمة لمذهبه، وفي عَصره مَنْ هو أفضل منه بفنون العلوم، كأبي الطَّيِّب الطَّبري، والماوَرْدِي، وأبي إسحاق الشِّيرازي، وابن الصباغ ونحوهم، فقدَّمه الزَّمانُ على أمثاله، فكان أشكرَ النَّاس لِنعَمِ الله، فاصطنع مَنْ دونَه من العلماء، وأكرم مَنْ فوقه من الفقهاء حين أراه اللهُ في نفسه فوق ما تمنَّاه مِنْ ربه، وعساه رأى من السَّعادة ما لم يخطر بباله؛ حيث رأى أبا الطَّيِّب الطَّبري نظير أُستاذه الصَّيْمري شاهدًا بين يديه، وتعجرف عليه أبو محمد التَّميْمي، فكان يغشاه في مجالسه ويستميله بجهده، ولما عَرَضَ عليه القائم الوِزارة أبى أن يتعدَّى رُتبة القضاء.

فلما ولي ولده أبو الحسن سلك طريقةً عجيبة خَرَجَ بها عن سَمتِ أبيه، فقدَّم أولادَ السُّوقة وحَرَمَ أولاد العلماء حقوقهم، وقبِلَ شهادةَ أرباب المِهَن، وانتصب قائمًا للفُسَّاق الذين شهد بفِسقهم في لُبسِ الحرير، والتختُّمِ بالذهب، وصاح في المجلس بأعلى صوته: إنه لم يبق في الأرض مجتهد، وهو لا يعلم ما تحت هذا الكلام من الفساد، وهو إبطال الإجماع الذي هو آكَدُ أدِلَّةِ الشَّرْع، وليس لنا دليلٌ معصوم سواه، وذكَرَ كلامًا طويلًا، وقال في آخره: أصلحه الله لنفسه، فما أغنانا عنه.


(١) ما بين حاصرتين من (ب).
(٢) عذيري من فلان: أي من يعذوني. "اللسان" (عذر).
(٣) في (ع) و (ب) أشطريه، وهو خطأ، وأشطر جمع شطر، وللناقة شطران قادمان وآخران، فكل خِلفين شطر، ويقال في المثل: حَلَبَ فلان الدهر أشطره: أي خَبَرَ ضروبه، يعني أنه مرَّ به خيره وشره وشدته ورخاؤه، ثشبيهًا بحلب جميع أخلاف الناقة، انظر "اللسان" (شطر)، و"مجمع الأمثال": ١/ ١٩٥.
(٤) الأطيبان: الطعام والنكاح. "اللسان" (طيب).