للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هاتِ تلك الصُّرَّة. فخرج الغلام، وبيده الخِرْقة التي لقيها الرَّجل مع المملوك، فلما رآه المملوك بكى، فقال له سَيِّدُه: ما يبكيك؟ فَقَصَّ عليه القِصَّة، فبكى سيده، وقال: صَدَقَ رسولُ الله "مَنْ ترك شيئًا [لله] (١) عَوَّضه الله خَيْرًا منه" (٢).

ومنها ما حكاه ابنُ عَقيل عن نَفْسِهِ، قال: حججتُ في بعض السّنين، فبينا أنا بالحَرَمِ، إذا بشيءٍ يلوحُ وله شُعاع، فأخذته، وإذا بعِقْد لؤلؤ له قيمة، وهو منظومٌ في خيطٍ من حريرٍ أحمر، فبينا أنا أُقلّبه وإذا بشيخٍ أعمى يقول: مَنْ رأى لنا عِقْدًا من لؤلؤ ورَدَّه فله مئةُ دينار، قال: فقلتُ له: فما علامته؟ فقال: هو في خيطٍ أحمر. فقلتُ: خُذْ عِقْدَك. فقال: خُذِ الدَّنانير، فقلتُ: لا والله. واتَّفق أنني خرجت إلى الشَّام، وزرت البيتَ المقَدَّس، ونزلت إلى دمشق، وقصدتُ بغداد، وكانت أمي باقية، فاجتَزْتُ بحلب، فدخلتها آخر النهار، فأويت إلى مسجدٍ، وأنا جائع بَرْدان، فقال لي زبون المسجد: تَقَدَّمْ فَصَلّ بنا. فصلَّيْتُ بهم، فعَشُّوني، وكانت ليلة رمضان، فقالوا: إمامنا قد توفي منذ أيام، وكان شيخًا صالحًا مكفوفًا، ونسألك أن تقيم عندنا هذا الشهر. فأقمتُ أُصلِّي بهم، فقالوا: للشيخ الذي كان إمامنا بنتٌ نزوِّجُك إياها. فَزَوَّجُوني، فأقمتُ عندها سنة، وأوْلَدْتُها ولدًا ذكرًا، ثم مَرِضَتْ في نِفاسها، فتأمَّلتُها ذاتَ يوم، وإذا بخيطٍ أحمر في عُنُقها، وإذا به العِقْد الذي لَقِيْتُه بعينه، فقلتُ لها: يا هذه، إنَّ هذا العِقْدَ قضيته كذا وكذا. فبكَتْ، وقالت: أنتَ هو؟ والله لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهم ارْزُقْ ابنتي مثل الذي رَدَّ عليَّ العِقد، وقد استجابَ اللهُ منه لأنه كان صالحًا. ثم ماتت، فأخذتُ العِقْد والميراث، وعدتُ إلى بغداد.

ومنها ما حكاه [أيضًا عن نفسه] (٣) قال: كان عندنا في دَرب الشَّيخ بالظَّفَرِيَّة (٤) دارٌ كلَّما سكنها ناسٌ أصبحوا موتى، فجاء في بعض الأيام رجلٌ مقرئ، فقال: أكروني إياها، فقالوا: قد عَرفْتَ حالها. قال: [قد] (١) رضيت، فأخذ المِفْتاح، ودخل فباتَ


(١) ما بين حاصرتين من (ب) و (م) و (ش).
(٢) لم أقف له على إسناد بهذا اللفظ، وهو مما اشتهر على الألسنة. وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (٢٠٧٣٩) نحوه بإسناد صحيح بلفظ "إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا أعطاك الله خيرًا منه"، وانظر أحاديث الباب ثمة.
(٣) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).
(٤) الظفرية: محلة بشرقي بغداد كبيرة، وإلى جانبها أخرى كبيرة يقال لها قراح ظفر، قال ياقوت: أظنهما منسوبتين إلى ظفر أحد خدام دار الخلافة. "معجم البلدان": ٤/ ٦١.