للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسبحان الله الذي جَلَّ عن الأَشْباه والنَّظير، وعَجَزَ عن تكييف ذاته الفِكْرُ والضَّمير، ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٠٣].

والحمدُ لله ناصِرُ أوليائه، وخاذِلُ أعدائه، الذي لا يخلو عن عِلْمه مكان، ولا يَشْغَلُه شأنٌ عن شان، أحمده على تزايُدِ نِعَمِهِ، وأسأله الزِّيادة من بِرّه وكَرَمِهِ، وأَشْهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةً أجعلها لنفسي الوِقاء، وأتَّخِذُها ذُخرًا ليوم اللِّقاء، وأشهد أَنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بَعَثَه والكُفْر ممتدُّ الرِّواق، قد ضَرَبَ بجِرانه (١) في الآفاق، فشمرَّ عن ساق، وقَوَّم أهلَ الزَّيغ والنِّفاق، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، وأهلِ بيته الأَطْهار، وعلى عَمِّه العَبَّاس ذي الشرف الشَّامخ، والمجد الباذِخ، جَدِّ أمير المؤمنين، أبي الخُلَفاء الراشدين، وعلى أزواجه الطَّاهرات أمهات المؤمنين، وسَلَّم، صلاةً تُزْلِفُهم بها يوم الدِّين، وتجعلهم في جواره في أعلى عِلِّيين.

عبادَ الله، قد وَضَحَ السَّبيلُ لطالبيه، ونَطَقَ الدَّليل للراغب فيه، وظَهَرَ الحق كظهور معانيه، فما للنُّفوس راغبةٌ عن رشادِها، مشمِّرةٌ على فسادِها، مفرِّطةٌ في إصدارها وإيرادها، جاهلةٌ بمعادها، أم هي غَنِيَّةٌ عن استعدادِها، هيهات هيهات، كم اخترمتِ المنيةُ قَبْلكم، وساقَتْ إلى الأرماس مَنْ كان أشدَّ منكم ومثلكم، سَلَبَتْهُمْ أرواحَهم، وقطعتهم أفراحَهم، ولم تَخِفَّ جيوشُهم وسلاحُهم، طالما أفنتْ أُممًا، واستزلَّتْ قَدَمًا، وأمطرت عليهم من الفناء دِيَمًا، وَرَمَتْهُم من البلايا أَسْهُمًا، وحَرَمَتْهم من الآمال مَغْنمًا، وحمَّلتهم من الأثقال مَغْرمًا، ولم تراعِ فيهم محرمًا، ذَلَّوا بعد أن عَزُّوا في دُنْياهم، وسادوا وجَرُّوا الجيوش إلى الأعداء، وقادوا، فعاد مُطْلَقُهم مأسورا، وقائِدُهم بالشَّقاء مقهورا، قد عَدِموا نورًا وسرورًا، فيا أسفى لهم، ضيَّعوا زمنًا، وما اكتسبوا حسنًا، فكيف بهم إذا نُشِرَتِ الأمم، وأعيدت الحياة إلى الرِّمم، ونزل بذوي الذنوب الأَلَم، وظَهَرَ مِنْ أهل التقصير الأَسَفُ والنَّدم، فذلك لا يرحم فيه من شكا، يوم يشتدُّ فيه الفَرَق، ويتزايد فيه القَلَق، وتَثْقُلُ على أهلِها الأوزار، وتَلْفَحُ وجوهَ العُصاةِ النَّار، وتَذْهَلُ المُرْضعات، وتَعْظُمُ التَّبِعات، وتَظْهَرُ الآيات، وتُكْشَفُ البَلِيَّات، ولا تُقالُ فيه عَثْرةُ [من] (٢) نَدِمَ، ولا ينجو من عذابِ الله إلا من رَحِم.


(١) أي ثبت واستقر. "اللسان" (جرن).
(٢) ما بين حاصرتين من "المنتظم": ٩/ ٢٥٧.