للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اعتراني، فتوجَّهت عند اليوم الذي حضرت فيه المجلس، فلما سرت عن بغداد ثلاثة أيام، اجتزت بمكانٍ أفيحَ، وفيه روضةٌ خضراء وماءٌ جارٍ، فقال لي بعضُ الرِّفْقة: ألا تنزل ها هنا نصلي ونأكل شيئًا، فإننا لا نجد أمامنا ماء؟ فنزلت، فتخيلته المكان الذي رأيته آنفًا لا أشكُّ فيه، فتوضَّأتُ للصلاة، وقصدت مكانًا أُصلِّي فيه، فإذا فيه منديلي بعينه، وفيه مفاتيحي التي فقدتها يوم المجلس هناك، فكدت أخرج من عقلي، فقضيتُ سفري وعُدْتُ، وأهمُّ الأمور عندي ملازمةُ الشيخ واستدراك ما فَرَطَ مني، فلازمتُه لما أراد الله تعالى بي من السَّعادة والبركة، فشاهدتُ منه ما لا أذكره قَطُّ مخافةَ أن يشك السَّامع في حديثي، فقلتُ له: حدِّثْ بما رأيتَ منه، فمِثْلُك لا تتطرَّق إليه التُّهم مما يحكي. فقال لي: ليس لي إلى ذلك حاجة، فقد كان يُحكى لي عند من لا أشك في صِدْقه وعدالته ما يُشبه هذا، فلا أصدقه. فقلت: لقد أراد الله بك خيرًا، فقال: الحمد لله الذي لم أمت على ما كنت عليه.

وقال الحافظ أبو العَبَّاس أحمد بن أحمد بن أحمد البَنْدَنيجي: حضرتُ أنا والشيخ جمال الدِّين بن الجوزي مجلس سَيِّدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فقرأ القارئ آية، فذكر الشيخ في تفسيرها وَجْهًا، فقلتُ للشيخ جمال الدين: أتعلم هذا الوَجْه؟ قال: نَعَمْ، فذكر الشيخ فيها أحَدَ عشر وجهًا، وأنا أقول له: أتعلم هذا الوَجْه؟ وهو يقول: نَعَمْ، ثم ذكر الشيخ وجهًا آخر، فقلتُ له: أتعلم هذا؟ قال: لا، حتى ذكر فيها كمال أربعين وجهًا، يعزو كلَّ وَجْهٍ إلى قائله، والشيخ جمال الدِّين يقول: لا أعرف هذا الوجه، واشتدَّ تعجبه من سَعَة عِلْم سيدنا الشيخ، . ثم قال: نترك القال ونرجع إلى الحال، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاضطرب النَّاس اضطرابًا شديدًا، وخَرَقَ الشيخ جمال الدين بن الجوزي ثيابه.

وقال محمَّد الحسني المَوْصلي: سمعتُ أبي يقول: كان سيدنا الشيخ عبد القادر يتكلَّم في ثلاثة عشر عِلْمًا، وكان يذكر في مدرسته درسًا من التفسير، ودرسًا من الحديث، ودرسًا من المذهب، ودرسًا من الخلاف، وكان يُقرأ عليه في طرفي النهار التَّفسير وعلوم الحديث، والمذهب والخلاف والأصول والنحو، وكان يُقْرِئُ القرآن بالقراءات بعد الظُّهْر.