وقال الشيخ أحمد بن الرِّفاعي: سُئِلَ شيخنا خالي منصور عن المحبة، فقال، وأنا أسمع: المحب سكران في خُماره، حيران في شرابه، لا يخرج من سكرة إلا إلى حيرة، ولا من حيرة إلا إلى سَكْرة، ثمَّ أنشد:
الحبُّ سُكْرٌ خُماره التَّلَفُ … يَحْسُنُ فيه الذُّبول والدَّنَفُ
والحب كالموت يفني كل ذي شغفٍ … ومن تطعَّمه أودى به التَّلف
في الحُبِّ مات الأُلى أصفوا محبتهم … لو لم يحبوا لما ماتوا وما تلفوا (١)
سكن نهر دقلا من أرض البطائح، واستوطنها إلى أن مات بها، وقد عَلَتْ سِنُّه، وقبره بظاهرها يزار، ولما حضرته الوفاة، قالت له زوجته: أَوْصِ لولدك، فقال: بل لابن أختي أحمد. فلما كرَّرت عليه القول، قال لابنه ولابن أخته: ائتياني بنخيلٍ كثير. ولم يأته ابن أخته بشيء، فقال له: يا أحمد لم تأتِ بشيء. فقال له: إني وجدته كلّه يُسَبِّح، فلم أستطع أن أقطع منه شيئًا. فقال الشيخ لزوجته: سألتُ غير مرة أن يكون ابني، فقيل لي: بل ابن أُختك أحمد.
وحكى جماعةٌ من أصحاب الشيخ منصور البطائحي، وهو خال الشيخ أحمد الرفاعي، وبصحبته انتفع وتخرَّج، قالوا: ذُكر الشيخ عبد القادر وهو شابٌّ عند شيخنا الشيخ منصور، فقال: سيأتي زمانٌ يُفْتقر إليه فيه، وتعلو منزلته بين العارفين، ويموت وهو أحبُّ أهلِ الأرض إلى الله تعالى ورسوله في ذلك الوقت، فمن أدرك منكم ذلك فليعرف حُرْمته، وليعظِّمَ أمره.
وقال الشيخ علي بن الهيتي: كان شيخنا أبو الوفاء يتكلَّم على النَّاس فوق الكرسي، فدخل الشيخ عبد القادر إلى مجلسه، وهو يومئذٍ شابٌّ أَوَّلَ ما دخل بغداد، فقطع كلامه، وأمر بإخراج الشيخ عبد القادر، فأُخرج وتكلَّم، ثمَّ دخل الشيخ عبد القادر المجلس، فقطع كلامه، وأمر بإخراجه، فأُخرج، وتكلَّم، ثمَّ دخل الشيخ عبد القادر ثالثةً، فنزل الشيخ أبو الوفاء، واعتنقه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: قوموا لوليِّ الله يا أهلَ بغداد، ما أمرتُ بإخراجه إهانةً له، بل لتعرفوه، وعِزَّة المعبود على رأسه سناجق قد تجاوزت ذوائبها المشرق والمغرب. ثمَّ قال له: يا عبد القادر، الوقت الآن لنا وسيصير
(١) البيت الأول من المنسرح، والثاني والثالث من البسيط!