وأصبحت قاهرةُ المُدَّعي … مقهورةً قد زانها القَهْرُ (١)
وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي ﵀ في جملة خُطْبة كتابٍ سمَّاه "النَّصْر على مِصْر": الحمد لله الَّذي قدَّم الآدميين على جميع المخلوقين تعظيمًا لهم وتبجيلًا، ثم فَضَّل محمَّدًا ﷺ وصان شَرْعه أن يُغَيَّر نَسْخًا أو تبديلًا، ثم جَمَعَ شَمْلَ أُمَّته بخلافة بني العَبَّاس زادها الله تجميلًا، فكم هَينَمَ عدوٌّ في ولايتهم وعدَّ نفسه عديلًا، فأُديلت دولتهم عليه وكفى بالإدالة دليلًا، ولما بانت البوارق بمصر من فِرْعونها زمنًا طويلًا، مدَّ لهم أَمَدَ البغي فحملوا منه حِمْلًا ثقيلًا، فلما نهضت خلافةُ الإمام المستضيء بأمر الله بالحق سَدَّتْ في وجوه الظَّلَمة سبيلًا، وخربت قصر مصر بالظُّلم، وأعادت باغي البغي قتيلًا، وبادت شرقًا وغربًا وقُرْبًا وبعْدًا، والعاقبة للمتقين ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: ١٢٢]، ثم اتبع أقوام يسمَّون الرَّافضة، يثلبون الصَّحابة، ولا يدينون بطاعة الخلافة، ومعنا في بلدتنا منهم خَلْقٌ كثير، ولم نطلع منهم على هفوة وعثرة، وكلما رأوا من أنوار الدولة العَبَّاسية ما يخجلُ الشَّمْسَ والقمر سَلَوا نفوسهم بساكني مصر والمنتظر، فليتهم علموا أَنَّ صاحب مصر قد محقته آفة، وأن المنتظر حديث خرافة، يا لهذا الفتح فتحٌ ضاهى فتح مكة، تجهَّمت فيه وجوه ضُربت على غير المسكنة، أظهر عليها الحُزْن والأسف أثره ﴿عَلَيهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ [عبس: ٨٠] ولقد فَتَحَ هذا الفَتْحُ صدرَ كلِّ صَدْر، أسهمنا من وقعته وما حضرنا وقعة بدر.
ثم قال في آخر الكتاب: هذه كلمات مَنْ قَلْبُهُ معقودٌ على الولاء، ولسانُه مشغولٌ بالدُّعاء، ولا بُدَّ أن يبوح بفضل العطر ناشق، ولا يمكن أن يكتم وَجْده عاشق، ولما علَّق الناسُ اللآلي المثمنات، عَلَّق العبدُ - إذ لا مال له - هذه الكلمات، استجاب الله منه صالحَ دعائه، في صباحه ومسائه، بمحمّد وآله، وانقطعت ولايةُ المِصْريين عن مصر، وقد كان يخطب لبني العَبَّاس بها إلى سنة تسع وخمسين وثلاث مئة في خلافة
(١) الأبيات في "خريدة القصر" قسم شعراء العراق: مج ١ / ج ٣/ ٣٢٥ - ٣٢٦.