فقالوا له: إذا لم يكن على ما كان، فقد أثبتَ له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيهًا ينفي حقيقةَ النزول فقد أَجَزْتَ عليه الانتقال.
وأما الحرف والصَّوت، فإنه لم يصحَّ عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه أَنَّه كلام الله لا غير.
وارتفعت الأصوات، فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلالةٍ وأنتَ على الحق؟! فقال: نَعَمْ. فأمر الأسارى، فنزلوا إلى جامع دمشق، فكسروا منبر الحافظ، وما كان في حَلْقة الحنابلة من الدرابزينات، ومنعوهم من الصَّلاة، ففاتتهم صلاةُ الظُّهْر، فجمع النَّاصح ابن الحنبلي النَّبوية، وقال: لئن لم نرجع إلى مكاننا، وإلا فَعَلْنا وصنعنا. فأذِنَ لهم القاضي ابنُ الزكي في ذلك، وكان رأس الفِتْنة، وكان الدَّوْلعي موافقًا للحافظ، وإنما خاف على منصبه، فوافقهم، وخرج الحافظ إلى بَعْلَبَكَّ، فأقام بها، وكان العادل في الشرق يحاصر مارِدِين، ثم سافر الحافظ إلى مِصْر، ونزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، وكان الملك العزيز في الصَّعيد، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وبعثوا بالفتوى إلى العزيز، فقال: إذا رجعنا أخرجناه. واتَّفق أَنَّه وقع من الفرس، واشتغل بنفسه ومات، وجاء الأفضل إلى مِصْر، فأوصى به الولاة، ولما دخل العادل مِصْر ومعه وزيره ابن شُكْر نُقِلَ إليه ما نقِلَ إلى العزيز، فطلبه، فدخل عليه دِرْباس الكرْدي وعثمان بن الزنْجيلي، وعرَّفاه زُهْدَه وفَضْلَه، وتعصُّبَهم عليه، فلما دخل على العادل قام له وصافحه، وأجلسه إلى جانبه، وأكرمه، وسأله الدعاء، ثم عاد العادل ووزيره إلى الشَّام، وأقام الحافظ في مسجد المصنع يذكر الحديث، فكتب أهلُ مِصْر إلى ابن شكْر يقولون: قد أفسد عقائدَ النَّاس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد. فكتب إلى والي مِصْر بنَفْيه إلى المغرب.
قال المصنِّف ﵀: فحدَّثني شيخُنا تاجُ الدِّين الكندي، قال: حكى لي رجلٌ من أهل مِصْر أَنَّ الحافظ توفي، واتفق أَنَّ الوزير ابن شُكْر طلبني في تلك السَّاعة، فحضرت عنده، فقال للكاتب: اكتب إلى مِصْر بنفي عبد الغني إلى المغرب، ولم يكن عَلِمَ بموته، فقلتُ: ما تحتاجون تنفونه هو قد نفاكم. فقال ابنُ شُكْر: وكيف؟ قلت: السَّاعة أخبرني شخص أَنَّه مات. فوجَمَ ابنُ شُكْر ساعةً كأنَّه نَدِمَ.