للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المجلس، ثم حُمِلَ إلى الدَّير، فكان آخرَ العَهْدِ به، وأقام أيامًا مريضًا، ولم يترك شيئًا من أوراده، فلما أن كان عشية الاثنين ثامن عشرين ربيع الأول جمع أهله، واستقبل الِقبْلة، ووصَّاهم بتقوى الله ومراقبته، وأمرهم بقراءة "يس" وكان آخرَ كلامه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] وتوفي ، وغُسل في وقت السَّحَر، [ومَنْ وصل إلى الماء الذي غُسِّل به نَشَّف به النِّساء مقانعهن، والرجال عمائمهم،] (١) ولم يتخلَّف عن جِنازته أحدٌ من القُضَاة والأمراء والعُلماء والأَعْيان وعامة الخَلْق، وكان يومًا مشهودًا، ولما خرجوا بجنازته من الدَّير كان يومًا شديدَ الحَرِّ، فأقبلت غمامةٌ، فأظلَّتِ النَّاسَ إلى قبره، وكان يُسمع منها دويٌّ كدويِّ النَّحْل، ولولا المبارز المعتمد وابن محارب وشِبْل الدولة الحُسَامي ما وصل إلى قبره مِنْ كفنه شيءٌ، فإنما أحاطوا به بالسُّيوف والدَّبابيس.

وكان قبل وفاته بليلةٍ رأى إنسان كانَ قاسيون قد وَقَعَ أو زال من مكانه، فأوَّلوه موته، ولما دُفِنَ رأى بعضُ الصَّالحين في منامه تلك الليلة النَّبيَّ وهو يقول: مَنْ زار أبا عمر الليلة -وهي ليلة الجمعة- فكأنَّما زارَ الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أَن تصلوا إليه. [ورئيت مناماتٌ كثيرة] (٢)، ومات عن ثمانين سنة، ولم يخلَّف دِينارًا ولا دِرْهمًا، ولا قليلًا ولا كثيرًا.

سمع بدمشق أبا المكارم عبد الواحد بن محمد بن مُسَلَّم بن هلال الأَزْدي، وأبا تميم سلمان بن علي الرَّحْبي، وأبا الفَهْم عبد الرَّحمن بن عبد العزيز الأَزْدِي وغيرهم [وبمصر] (٢) أبا محمد عبد الله بن بَرِّي بن عبد الجبار اللُّغوي المَقْدِسي، وأبا طاهر إسماعيل بن قاسم الزَّيَّات وغيرهما.

وروى لنا الحديث، وعَلَّمني دُعاء السَّنَة، فقال: ما زال مشايخنا يواظبون على هذا الدُّعاء في أوَّل كلِّ سنة وآخرها، وما فاتني طول عمري، وأما أوَّل السنة فإنَّك تقول: اللهم أنتَ الأبدي القديم، وهذه سَنَةٌ جديدة، أسألك فيها العصمة من الشيطان وأوليائه، والعَوْنَ على هذه النَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، والاشتغال بما يقرِّبُني إليك يا ذا الجلال والإكرام، فإنَّ الشيطان يقول: قد آيسنا مِنْ نفسه فيما بقي، ويوكل الله به ملكين يحرسانه.


(١) في (ح): ونشف النساء والرجال الماء الذي غسل به العمائم والمقانع. . .، والمثبت ما بين حاصرتين من (م) و (ش).
(٢) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).