للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتح لي. فقال: لا أفتح لك، إنك امرؤ مَشؤوم، وقد عاهدتُ محمدًا فلم أرَ منه غيرَ الوفاءِ والصدقِ، فلستُ بناقضٍ ما بيني وبينه، فقال: ويحك افتح الباب، فقال: ما أنا بفاعل، فقال: والله ما أغلقتَ بابَك دوني إلا خوفًا على جَشيشتك (١) لئلا آكلَ مَعك منها، فأَحْفَظَ ذلك كعبًا ففتح له الباب، فدخل وقال: يا كعب قد جئتك بعِزِّ الأبد وببحرٍ طام: أبي سفيان في قريش، والأحابيش، وقبائل العرب، فأنزلْتُهم حولَ المدينة في عشرين ألفًا، وعاهدتهم أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: جئتني بذل الدهر، وجَهامٍ (٢) قد أُهريقَ ماؤه، ورعد وبرق ليس فيه مطر، فَدَعْني وما أنا عليه مع محمَّد، فلم أر منه ما أكره، فلم يزل بكعب يفتله في الذِّرْوَةِ والغارب (٣) حتى سمح له بنقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله ، وأنه إن رجعت قريش وغَطَفانُ، ولم يصيبوا من محمَّد شيئًا أنه يدخل معه حصنه فيصيبَه ما أصابه.

ولما بلغ النبي ذلك، ندب جماعة من أصحابه منهم: سعد بن عبادة، وعبد الله ابن رواحة، وخوّاتُ بن جُبَير، وقال: "انطلقوا إلى قريظة، واعْلَموا لنا عِلْمَها فإن كان حقًّا فالْحَنوا لَحْنًا ولا تفشوه، فَتَفُتُّوا في أعضاد الناس وإن كان كعب على الوفاء فأذيعوه". فخرج إليهم، فإذا هم أبلغ مِمّا بلغه عنهم، فعادوا وأخبروا رسول الله ، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" (٤).

واشتد الحصار على المسلمين، وجاؤوهم من فوقهم ومن أسفلَ منهم حتى ظن المؤمنون الظنونَ، ونَجمَ النفاقُ وتحدث المنافقون، وقال معتِّب أخو بني عمرو بن عوف: يَعِدُنا محمدٌ أن نأكل كنوزَ كِسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط (٥).


(١) الجشيشة: طعام يصنع من البر، يطحن غليظًا.
(٢) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
(٣) الذروة والغارب على ظهر البعير، وأراد بذلك أنه لم يزل يخدعه كما يخدع البعير إذا كان نافرًا فيمسح باليد على ظهره، حتى يستأنس فيجعل الخطام على رأسه.
(٤) انظر "السيرة" ٢/ ٢٢٠ - ٢٢٢، و"المغازي" ٢/ ٤٥٥ - ٤٥٩، وعندهما أن النبي قال: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين".
(٥) انظر "السيرة" ٢/ ٢٢٢.