وأَقِرَّهم على أعمالهم، ويبايعون لك النَّاس، قال: فأبَيتُ عليه وقلت: لا وَلَّيتُ هؤلاء أبدًا، ولا يجوز أن يُولَّى أمثالهم.
فانصرف وأنا أعرفُ أنَّه يَرى أني مُخطئ، ثم عاد إليَّ الآن فقال: قد رأيتُ بعد ذلك أن تصنَعَ الذي رأيتَ؛ فتَنزعهم وتستعين بمن تثق، فقلت: أما في المرّة الأولى فقد نَصَحك، وأمَّا في الثَّانية فقد غَشّك، لأنك إذا عَزَلْتَهم يقولون: هو قتل صاحبَنا، فيُؤلّبون عليك، فقال: والله لا أُولّي أحدًا منهم أبدًا، فإن قَبِلوا فذلك خيرٌ لهم، وإن أدبروا بذلتُ لهم السيف.
قال ابن عباس: ثم قال لي: سر إلى الشام فقد وَلَّيتُكها، فقلتُ: ما هذا برأي، معاويةُ رجلٌ من بني أميَّة، وهو ابنُ عمِّ عثمان وعاملُه عليها، ولستُ آمَنُ أن يضربَ عُنُقي بعُثمان، أو أدنى ما يَصنَعُ بي أن يَحبسني، فيتحكَّمَ عليّ، ولكن اكتُب إلى معاوية فمَنِّهِ وعِدْه، فأبى عليّ وقال: والله لا كان هذا أبدًا.
وهذه رواية الواقدي، وقال هشام: لما قال له ابن عباس: نصحك بالأمس وغشَّك اليوم، فقال: وكيف؟ قال: لأنَّ بني أميَّة ومعاوية أصحابُ دنيا، فمتى أبقيتَهم لم يُبالوا مَن وَلِيَ هذا الأمر، ومتى عَزلتَهم أخذوا هذا الأمر بغير شورى، وقالوا: قَتل صاحبَنا، وألَّبوا عليك؛ فانتقَضَ أهلُ الشام وأهلُ العراق، مع أني لا آمَنُ طلحة والزبير أن يكونا عليك.
فقال له علي: أمّا ما ذكرتَ من إقرارهم؛ فما أشكُّ أنَّه خيرٌ في عاجل الدنيا وصلاحها، وأمّا الذي يَلزَمُني من الحقِّ والمعرفةِ بهم فلا يحلّ لي أن أُبقي منهم واحدًا ساعةً من نهار.
وبلغ المغيرة قول ابن عباس فقال: صدق، نصحتُه أولًا، فلما لم يَقبل غششتُه، فخرج المغيرة بعد هذه المقالة إلى مكّة.
وقال الهيثم: قال المغيرة لعلي: وَلِّهم شهرًا واعزلْهم دهرًا، فقال: لا والله ولا ساعة، ثم تمثل فقال:[من الطَّويل]
فما مِيتةٌ إن مِتُّها غيرَ عاجزٍ … بعارٍ إذا ما غالت النَّفْسَ غُولُها