فلما يئس منه جرير طلب الانفصال عنه، فكتب إلى أمير المؤمنين جوابَ كتابه:
أما بعد: فإنه لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريءٌ من دم عثمان، كنتَ كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريتَ المهاجرين والأنصار بعثمان، وخَذّلتهم عنه، حتى أطاعك الجاهلُ، وتقوَّى بك الضعيف، وقد عَزم أهلُ الشام على قتالك؛ اللهمَّ إلا أن تَدفع إليهم قتلةَ عثمان فيكفُّوا عنك، وتَجعل الأمر شورى بين المسلمين، ويكون ذلك بالشام لا بالحجاز، فأما سابِقتُك في قريش، ومكانتُك من رسول الله ﷺ فإني لا أدفعُه والسّلام.
وكتب بأسفله أبياتَ كعب بن جُعيل قال: [من المتقارب]
أرى الشام تكره أهلَ العراق … وأهلُ العراق لهم كارهونا
وكلٌّ لصاحبِه مُبغِضٌ … يَرى كلَّ ما كان من ذاك دِينا
إذا ما رَمَوْنا رَمَيناهمُ … ودِنَّاهُم مثلَ ما يُقرِضونا
وقالوا عليٌّ إمامٌ لنا … فقلنا رَضِينا ابنَ هندٍ رضينا
وقالوا نرى أن تَدينوا له … فقلنا لهم لا نَرى أن نَدينا
وكلٌّ يُسَرُّ بما عنده … يَرى غثَّ ما في يديه سَمِينا
من أبيات (١).
فلما قدم جرير على أمير المؤمنين أخبره خبر معاوية، واجتماعَ أهل الشام معه على قتاله، وأنهم يبكون على عثمان، ويقولون: إن عليًّا قتله، وأنهم لا ينتهون عنه حتى يَقتلهم أو يَقتلوه.
فقال له الأشتر: قد كنتُ نهيتُك أن تبعثَ جريرًا، وأخبرتُك بعداوته وغِشّه، ولو بعثتَني كان خيرًا من هذا الذي أقام عنده؛ حتى لم يَدَع بابًا يُرجى فتحُه إلا فتحه، ولا بابًا يُخاف منه إلا أغلقه.
فقال له جرير: والله لو كنتَ هناك لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قَتَلة عثمان.
فقال الأشتر: أما والله لو أتيتُ معاوية لحملتُه على خُطَّةٍ أُعجلُه فيها عن الفكر، ولو
(١) الأبيات في الأخبار الطوال ١٦٠، ووقعة صفين ٥٦ - ٥٧.