للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الطعام ما جَشُب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويَبتَدِئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دَعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا، وقُربه منا؛ لا تُكَلّمه هيبة له، ولا نبتَدِئُه لعظمه، فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظّم أهلَ الدّين، ويُحبُّ المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عَدله، فأشهد بالله لرأيتُه في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سُجوفَه، وغارت نجومُه، وقد مَثَل قائمًا في مِحرابه، قابضًا على لحيته، يَتَملْمَلُ تَمَلْمُلَ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا، أبي تعرَّضتِ؟ أم بي تَشَرَّفتِ؟ هيهات، عُزِّي غيري، قد بَتَتُّك ثلاثًا لا رجعةَ لي فيك، فعُمرك قصير، وعيشُك حقير، وخطرُك كثير، آه من قلَّةِ الزّاد، وبُعْدِ السَّفَر، ووَحْشَةِ الطَّريق.

قال: فذرفت دُموع معاوية على لحيته فما يملكها، وهو ينشفها بكُمّه، وقد اختنق القوم من البكاء أو بالبكاء.

ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، ثم قال: فكيف حُزنك عليه يا ضرار؟ قال: حُزنَ مَن ذُبح وَلَدُها في حِجرها؛ فلا ترقأ عَبْرَتُها، ولا يَسكن حُزنُها (١).

قلت: وقد أخرج أبو القاسم بن عساكر هذه الحكاية في "تاريخه" (٢) عن المدائني، وفي آخرها بعد قول ضرار: ولا يَسكن حزنُها؛ أن معاوية قال له: لكن أصحابي لو سُئلوا عني بعد موتي ما أخبروا بشيءٍ مثل هذا.

وقال أبو نعيم الحافظ بإسناده عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: دخلتُ على علي بالخَوَرْنق وهو يُرعَد تحت سَمَل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله جعل لك ولأهلك -أو ولأهل بيتك- في هذا المال نصيبًا، وأنت تصنع بنفسك ما تَصنع، فقال: والله ما أرزؤكم من مالكم شيئًا، وإنها لقَطِيفَتي التي خرجتُ بها من المدينة (٣).

قال عبد الله بن أحمد بإسناده، عن أبي مُطَرّف (٤) قال: رأيت عليًّا


(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية ١/ ٨٤ - ٨٥، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة ١/ ٣١٥ - ٣١٦.
(٢) ٨/ ٤٧٤ (مخطوط).
(٣) حلية الأولياء ١/ ٨٢، وصفة الصفوة ١/ ٣١٦ - ٣١٧.
(٤) في (خ): معطوف، والمثبت موافق لصفة الصفوة ١/ ٣١٧، والذي في فضائل الصحابة (٨٧٨)، والزهد ١٦٢: عن أبي مطر، وهو الصواب.