للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحكى أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" عن سعيد بن المسيَّب: أنه كان يحلف بالله لا يستثني أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل، ولكن حوَّاء سقته الخمر حتى سكر، ثم قادته إلى الشجرة فأكل منها (١).

قلت: والعجب من حكاية الثعلبي مثل هذا عن سعيد بن المسيَّب، وهو إمام وقته في العلم والزهد والورع والتحرُّز في أقواله عن مثل هذا. ثم قد اتفق العلماء على أنَّ خمر الجنَّة لا يسكر ولا يذهب بالعقول، قال الله تعالى ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)[الواقعة: ١٩] وقال الله تعالى ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا﴾ [الطور: ٢٣] وهو السكر، والمراد من الخمر إنما هو حصول اللَّذة المطربة، وذلك حاصل في الجنَّة بدون سكر، فإنه مباح لأهل الجنة مع بقاء عقولهم، وبهذا فارق خمرَ الدنيا.

وإنما اللَّائق بحال آدم أنه إنما أكل متأوِّلًا للكراهة دون التحريم، وذلك قبل النبوَّة، لأنه نهي عن شجرة فأكل من جنسها ظنًّا منه أنَّ المراد غير تلك التي نهي عنها لا التي أكل منها. على أنَّ الله تعالى قد عذره بكونه أكل ناسيًا فقال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)[طه: ١١٥].

فإن قيل: فإن كان آدم تعمَّد، فمعصيته كبيرة، والكبائر لا تجوز على الأنبياء، وإن كان نسي فالنسيان معفوٌّ عنه، فكيف وقعت المؤاخذة؟ فالجواب من وجوه:

أحدها: أنَّ الأنبياء قد أمروا بتجويد التحفظ، ومثل آدم لا يسامح.

والثاني: أنَّه خالف، ومخالف الأمر يعاقب وإن كان ناسيًا، فإنَّ من طلَّق امرأته ناسيًا أو ساهيًا أو هازلًا وقع طلاقه، فالنِّسيان معفوٌّ عنه في رفع الإثم دون المؤاخذة، وهذا معنى قوله : "عُفيَ لأمَّتي عنِ الخطأ والنسيانِ وما استُكرهوا عليه" (٢).

والجواب الثالث: أن بعض العلماء قال: إنه أكل متأَوِّلًا للكراهية دون التحريم.

وقال قتادة: لما أَكَلا منها بدَت لهما سوآتهما، وولَّى آدم هاربًا يستتر بورق الجنَّة،


(١) "عرائس المجالس" ص ٣٣، وانظر "تاريخ الطبري" ١/ ١١ - ١١٢.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢٠٤٥)، وابن حبان في "صحيحه" (٧٢١٩) من حديث ابن عباس.