للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذكر الهيثم بن عدي واقعته مع أخيه عليّ قال (١): قَدِمَ عقيلٌ الكوفةَ، فنزل على أخيه عليّ ، فأمر الحسنَ فكساه. فلما أمسى دعا عليٌّ بعَشائه؛ فإذا هو خبزٌ وملحٌ وبَقْلٌ. فقال عقيل: ما هو إلّا ما أرى؟! قال: نعم. قال: أفتقضي دَيني؟ قال: كم هو؟ قال: أربعون ألفًا. قال: اصبر حتى يخرجَ عطائي، فإنَّه أربعة آلاف دِرهم فأدفَعُها إليك. فقال عقيل: بيوتُ الأموالِ بيدِكَ، وأنتَ تُسَوِّفُني بعطائك! فقال: اكسر صندوقًا من هذه الصناديق، فإنَّ فيه أموال المسلمين، فخُذْها. قال: أفتأمرُني بذلك! فقال: أفتأمرني أن أدفعَ إليك أموال الناس وقد أمَّنوني عليها؟!

فخرج إلى معاوية، فأعطاه خمسين ألف دينار وقال له: كيف رأيتَني من أخيك؟ فقال: أخي آثر دينَه على دُنْياه، وأنْتَ آثَرْتَ دُنْياكَ على دينك، فأنْتَ خيرٌ لي من أخي، وأخي خيرٌ لنَفْسه منك.

وقال الهيثم: ثم عاد إلى عليّ ، فقال له: ويحكَ يا عقيل، اخترتَ الدنيا على الآخرة! فقال: الفَقْرُ والدَّينُ.

وقال الهيثم: قال له يومًا معاوية: يا أبا يزيد، جَفَوْتَنا. فقال:

وإني امرؤٌ مني التكرم شيمةٌ … إذا صاحبي يومًا على الهُونِ أَضمرا

ثم قال: يا معاوية، لئن كانتِ الدنيا مَهَّدَتْك مِهادَها، وأظلَّتك حذافيرُ مُلْكِها، ومدَّت عليك أطنابَ سُلْطانِها، لم يكن بالذي يزيدك مني رغبة، ولا خشوعًا لرهبة. فقال له معاوية: يا أبا يزيد، إنّي لأرجو من الله أن يكونَ إنّما رَدَّاني بردائِها، وحَباني مُلْكَها لكرامةٍ ادَّخَرها لي عنده. وقد كان داود خليفة، وسليمانُ مَلِكًا، وإنَّما هو المثال (٢) يُحتذى عليه، والأُمورُ أشباه. وايمُ الله، لقد أصبحتَ إلينا أبا يزيد حبيبًا، وعلينا كريمًا، وما أصبحتُ أُضمرُ لك إساءة.


(١) الخبر بنحوه في "تاريخ دمشق" ٤٨/ ١٤٩ - ١٥٠.
(٢) في "العقد الفريد" ٤/ ٦: لمثال.