للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جرَّاتَهُ على غيرك، فقال: إني امرؤ قد اقتربَ أجلي، ولم يَبْقَ منه إلا اليسير، وما أُوثرُ أن أَقْتُلَ خيارَ أهل هذا البلد، وأسفكَ دماءهم، فيَعِزَّ معاويةُ في الدنيا، وأَذِلَّ أنا يومَ القيامة، ولكني أَقْبَلُ من مُحْسِنِهم وأتجاوزُ عن مُسيئهم حتى يُفَرِّقَ بيننا الموت.

ثم مات المغيرةُ، ووَليَ زياد الكوفةَ، فأقام بها ستَّة أشْهُر، ثم عاد إلى البصرة، وولَّى الكوفةَ عمرَو بنَ حُرَيث، فبلغ عَمرًا أن جماعةَ يتردَّدُون إلى حُجْر بن عَدِيّ من شيعة عليّ، ويلعنون معاويةَ ويتبرَّؤون منه، وصعد يومًا عمرو بن حُريث إلى المنبر، فشتم عليًّا، فحصبوه فنزل.

وروى هشام بن محمد، عن محمد بن سيرين قال (١): خطب زيادٌ يومًا للجمعة، فأطال الخُطبةَ، وأخَّر الصلاةَ، فناداه حُجْر: الصلاةَ. فمضى في خطبته، فقال حُجْر: الصلاة. فمضى في خُطْبتِه، فلما خَشِيَ حُجْر فَوْتَ الصلاة؛ ضَرَبَ بيده، فأَخَذَ كفًّا من الحصى، وثار الناسُ معه، فحصبوا زيادًا، فنزل وصلَّى بالناس، فلما فرغَ من صلاته كتب إلى معاوية وكثَّر على حُجْر، فكتب إلى زياد: احملْهُ إليَّ مُوثقًا. فحمله إليه.

وقال ابن سعد (٢): لما قَدِم زياد الكوفةَ واليًا عليها من قِبَلِ معاوية؛ دعا بحُجْرِ بن عديّ، فقال له: قد كنتُ أنا وإيَّاك على ما قَدْ عَلمتَ، -يعني من حب عليّ ، - وإنَّه قد جاءَ غيرُ ذلك، وإنّي أَنْشُدُكَ الله أن تَقْطُرَ في من دمِكَ قَطْرة، فأستفرغه كلَّه. أَمسِكْ عليك لسانَكَ، ولْيسَعَكَ بَيتُكَ -أو منزلك- وهذا سريري فهو مجلسُكَ، وحوائجُك مَقْضِيَّةٌ لديَّ، فاكْفِني نَفْسَكَ، فإني أعرِفُ عَجَلَتكَ. فأَنشُدُكَ الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك، وإياك وهذه السَّفِلةَ -أو السُّفهاءَ- أن يستزلوك عن رأيك. فإنَّك لو هُنْتَ عليَّ واسْتَخْفَفْتُ بحقِّك؛ لم أَخُصَّك بهذا من نفسي.

وقال الهيثم: قال له زياد: وقد كنتُ أنا وأنتَ مُتَّفِقَينِ على محبَّة عليّ بن أبي طالب، فلما رأيتُ الأمرَ قد صُرِفَ عنه إلى معاوية؛ لم أتَّهمِ الله في قَضائِه، ورضيتُ به.


(١) تاريخ الطبري ٥/ ٢٥٦.
(٢) في "الطبقات" ٨/ ٣٣٧، وينظر "أنساب الأشراف" ٤/ ٢٧٣.