للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال له حُجر: كلَّا واللهِ، بل استمالتْكَ الدنيا فأفسَدَتْكَ. فقال له: أَمسِكْ عليك لسانَك، فواللهِ لئن قَطَرتْ من دمِكَ قطرةٌ لأَستَفْرِغَنَّكَ. فقال حُجْر: لستَ من هذا في شيء (١).

قال هشام: لله دَرُّ زياد، ما كان أَعقَلَه وأَحلَمَه وأَقْرَبَه إلى التحقيق! وللهِ دَرُّ المغيرةِ بن شعبة، ما كان أَبْصَرَه بعواقب الأُمور! كأَنَّه كان ينظر من سِتْرٍ رَقيق.

رجع الحديث إلى ابن سعد: ولما قال زياد لحُجْر ما قال، قال له: قد فَهِمتُ. ثم انصرف إلى منزله، فأتاه إخوانُه من الشيعة، فقالوا: ما قال لك الأميرُ؟ قال: قال لي كذا وكذا. فقالوا: ما نصح لك. فأقام وفيه بعضُ الاعتراض.

وكانت الشيعةُ يختلفون إليه ويقولون: إنَّك شيخُنا وأحقُّ الناس بإنكار هذا الأمر.

وكان إذا جاء إلى المسجد مَشَوْا معه، فأرسل إليه عمرو بن حُرَيث -وهو يومئذٍ خليفةُ زياد على الكوفة وزياد بالبصرة- يقول: يا أبا عبد الرحمن، ما هذه الجماعة، وقد أعطيتَ الأمير من نفسك ما قد علمتَ؟ فقال للرسول: يُنكرون ما أنتم فيه، إليك وراءَك أَوْسَعُ لك.

فكتب عمرو بن حُريث إلى زياد يقول: إن كانت لك حاجةٌ في الكوفة فالعَجَلَ العَجَلَ. فأَغَدَّ زياد السيرَ حتى قَدِم الكوفة، فأرسل إلى عديّ بن حاتم، وجرير بن عبد الله البَجَليِّ، وخالد بن عُرفُطة العُذْريِّ حليف بني زُهْرَة، وإلى عدَّةٍ من أشرافِ أهلِ الكوفة، فأرسلهم إلى حُجْرِ بن عَديّ ليعذِرَ إليه وَينْهاه عن هذه الجماعة، وأن يكفَّ لسانَه عما يتكلَّمُ به. فأتَوْه، فلم يُجِبْهُم إلى شيء، ولم يكلِّم أحدًا منهم، وجعل يقول: يا غلامُ، اعلِفِ البَكْرَ؛ لِبَكْرٍ في ناحيةِ الدار، فقال عديّ بنُ حاتم: أمجنون أنت؟! أُكلِّمُكَ بما أُكلِّمُكَ به وأنت تقول: يا غلام اعلِف البَكْر! فقال حُجْر لأصحابه: ما كنتُ أظنُّ (٢) أنَّ هذا البائسَ بلغ به الضَّعفُ إلى ما أرى!


(١) ينظر "أنساب الأشراف" ٤/ ٢٧٣، و"بغية الطلب في تاريخ حلب" ٥/ ٢١١٩.
(٢) في "طبقات" ابن سعد ٨/ ٣٣٨ (والكلام منه): فقال عديّ لأصحابه … إلخ، وهو الصواب، ففي "أنساب الأشراف" ٤/ ٢٧٥: فقال حُجر: لك أوَّلُ ما سمعت، فقال عديٌّ: ما ظننتُ أن الضعف بلغ بحُجر ما أرى.