للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما بعد، فقد ولَّيتم الأدبار يومَ الزَّحْف دَأب الكُفّار، مع كثرتكم وقلّة عدوّكم، وَصفَحتُ عنكم مرّة بعد مَرّة، وإني أقسم بالله يمينًا بَرَّةً؛ لئن عُدتم لمثلها لأُوقعنّ بكم إيقاعًا يكون أشدّ عليكم من هذا العدو؛ الذي تهْربون منه في بطون الأودية والشّعاب، وتَسَتّرون منه بأفناء الأنهار والخنادق، ثم كتب في آخره: [من الوافر]

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا (١)

فسار ابن الأشعث إلى المدائن، وعاد الجَزْلُ من جراحاته، فقال له الجزل: يا ابن العمّ، إنك سائر إلى فُرسان العرب، وأبناء الحرب، وأَحْلاس الخيل، والله لكأنما خُلقوا من ضلوعها، ثم بُنوا على ظهورها، وإن الفارس منهم أشدّ من مئة، إنْ لم تَبدأ به بدأ، وإن أحْجَمتَ أَقْدم، وإني قد قاتلتُهم وبَلَوتُهم، فإذا أصْحَرتُ لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضلُ عليّ، وإذا قاتلتُهم في مَضيق، أو خَنْدَقْتُ عليَّ نلتُ منهم ما أُحبّ، فلا تَلْقَهم إلا على تَعْبيَة، أو في خندق، ودفع له فرسه، ويقال لها: الفُسَيفساء، وقال: خُذْها فإنها لا تُجارى، ولا يُقاومُها فرس.

وسار خلفَ شَبيب، فارتفع عنه [شبيب] إلى دَقُوقاء، ثم إلى شَهْرَزُور، وعبد الرحمن خلفَه؛ لا يسير إلا على تَعبية، ولا ينزل إلا ويُخَندِق عليه، وشَبيب يُراوغه، حتى عَنّى ذلك الجيش ولقوا منه كلَّ بَليّة (٢)، وعبد الرحمن يتبعه من مكان إلى مكان، حتى نزل شبيب على قرية يقال لها: البَتّ، من أعمال العراق على تُخوم المَوصل، وبينها وبين سَواد الكوفة نهر يقال له: حَولايا -ودجلة والبَتّ اليوم من أعمال الرّاذان وأرض جُوخى-.

وجاء عبد الرحمن فنزل في عَواقيل نهر حَولايا -وهو مثل الخندق- وتحصَّن به، وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيامُ عِيدٍ لنا ولكم، فإن رأيتم أن تُوادعونا هذه الأيام فافعلوا حتى يَنقضي العيد، فأجابه عبد الرحمن، وكان يُحبّ مُطاوَلَتَه ومُوادَعَتَه.


(١) تمامه: ولكن لا حياة لمن تنادي، انظر الطبري ٦/ ٢٤٩. وقد نُسب إلى غير ما شاعر.
(٢) في (ص): ولقوا منه مشقة. وكلمة "شبيب" السالفة بين معكوفين من الطبري للإيضاح.