بجِيرَفْت مدينة كرمان، وأقام يقاتلهم سنة، وحاز فارس بأسرها، وصارت في يديه، فبعث الحجاج عُمّاله عليها، وبلغ عبد الملك فأرسل إلى الحجاج يُنكر عليه ويقول: دع للمهلب خراج جبال فارس فلا بدّ للجيش من قوة، فتركها للمهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قَبيصَة، وكتب إليه:
أما بعد، فإنك لو شئتَ لقد اصطَلَمْتَ هذه الخارقة المارقة، ولكنّك تحب طُولَ بقائهم لتأكلَ بهم الأرض، فانهض إلى قتالهم وجهادهم، ودع عنك العلَل والأباطيل، والأمور التي ليست عندي بسائغة، وقد بعثتُ إليك البراء ليُنهِضَك إلى قتالهم، والسلام.
فلما قرأ الكتاب أخرج المهلَّب الناس على راياتهم، وأخرج أولادَه، كلّ ولدٍ في كتيبة، وأوقف البراء على تلٍّ عالٍ، وقال له: انظر، والتقت الكتائب، واشتد القتال كأشدِّ ما يكون، والكتائب تتصادم من أول النهار إلى الظُّهر، وافترقوا فلما كان وقت العصر عادوا إلى القتال، فأقاموا على ذلك أيامًا، فجاء البراء إلى المهلب فقال: والله إن رأيتُ كذا قط، فإنك والله لمَعذور، فأحسن إليه المُهَلّب ووَصله، وقال: احْكِ للحجاج ما رأيت، وكتب معه كتابًا إلى الحجاج يقول فيه:
أما بعد، فقد أتاني كتاب الأمير بسبب هذه المارقة ومناهضَتِهم، وقد شاهد رسولُه ما صنعتُ، فلو قدرت على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ولم أفعل ذلك لقد غَشَشْتُ المسلمين، وما وَفيت للأمير، ولا لأمير المؤمنين، والسلام.
وأقام المهلَّب يُقاتلهم ثمانية عشر شهرًا، ثم إن عاملًا لقَطَرِيّ على بعض نواحي كِرمان قتل رجلًا من بني ضَبَّة من الخوارج خطأ، فطلب الخوارج إلى قَطَري أن يُقِيدَه منهم، فأبى وقال: قتله بتأويل؛ لأنه التقاه في سريّة، ولم يعرفه فأخطأ، فخذوا الدِّيَة، فأبوا وقالوا: لابُدَّ من قتله، فامتنع فافترقوا عليه، وخلعه بعضهم، ولم يَخلَعْه البعض، ووَلَّوا عليهم عبد الكبير (١) رجلًا منهم، وصاروا فريقين يقتتلون، فأقاموا على ذلك شهرًا، وبلغ الحجاج فكتب إلى المهلّب: لستُ أرى قتالهم مع اختلافهم، فربما مالوا إلى الصُّلح عند مناهضتهم، وأما الآن فهم يقاتل بعضهم بعضًا، فإن تمّوا على ذلك،
(١) في الطبري ٦/ ٣٠٣: عبد ربّه الكبير، وفي المنتظم ٦/ ١٩٤: عبد ربّ الكبير. وكذا فيما يأتي.