للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومَعرفتي بالحقّ الذي خرجتُ منه، وسألتُه أن يُخبر بذلك الأمير، ويأخُذَ لي منه أمانًا فلم يفعل، فالتفت الحجَّاج إلى يزيد فقال: أهكذا هو؟ قال: نعم، قال: فما مَنَعك أن تُخبِرَني بكتابه؟ قال: الشُّغْلُ الذي كان فيه الأمير، فقال الحجاج: انصرف آمنًا.

وقال مجالد: قال الشعبي: لما قَدِم الحجَّاجُ الكوفةَ واليًا عليها عُرض عليه الناس، فكنتُ فيمن عُرض عليه، فقال: مَن أنت؟ قلتُ: عامر الشعبي، قال: اجلس، فجلستُ، فقال: أقرأتَ القرآن؟ قلت: نعم، قال: ففرضْتَ الفرائض؟ قلت: نعم، قال: أنظَرْتَ في العربية والشعر؟ قلت: نعم، قال: ففي المغازي، قلت: نعم، قال: فحدِّثْني حديثَ بَدْرٍ، فحدَّثْتُه من رُؤيا عاتكة، إلى أن أذَّن المُؤذِّنُ للظُّهر، فقام فدخل وقال: لا تبرَحْ، وخرج فصلّى الظهر وقال: تَمِّم، فأتممتُها له، فجعلني عَريفًا على الشَّعْبيين، ومَنكِبًا (١) على هَمْدان، وفرض لي في الشَّرف من العطاء، فلم أزل عنده على أحسن حال حتى خرج ابن الأشعث، فأتاني قُرَّاء الكوفة وقالوا: يا عامر، إنك زعيم القراء، وأنت كذا وكذا، فلم يزالوا بي حتى أخرجوني معهم، فكنتُ أقوم بين الصفَّين فأذكُر الحجاج، فأَعيبُه بأشياء كنت أعرفُها فيه، وبلغ الحجاج فقال: ألا تَعجبون من هذا الخبيث؟! جاءني وهو وَضيعٌ فرفعتُه، وفعلتُ معه وفعلت، ثم خرج عليَّ ويقول ما يقول، أما والله لئن مَكَّنني الله منه لأجعلَنَّ عليه الدنيا مثلَ مَسْكِ حَمَل (٢).

قال: فما لَبثنا أن هَزَمنا الله، فدخلتُ بيتي، وأغلقتُ بابي، وأقمتُ مُستخفيًا تسعةَ أشهر، فكانت الدنيا عليَّ أضيَقَ من مَسْك حَمَل، ثم هربتُ إلى خُراسان وقد نادى مناديه: مَن التجأ إلى قُتيبة بن مُسلم فهو آمِنٌ، فركبتُ حمارًا، وسرتُ إلى فَرْغَانة، فدخلتُ على قُتيبة فلم يعرفْني، وكنتُ أغشى مَجْلِسَه.

ثم إنه فُتح عليه فَتْحٌ فلم يَدْرِ ما يَكتب إلى الحجاج، فكلَّمني في ذلك فقلت: عندي كلّ ما تريد، فقال: مَن أنت؟ قلت؟ لا تسأل عن ذلك، فقال: اكتُب كتابَ الفتح لأكتُبَ منه، فقلت: لا أحتاج، اكتب وأنا أُملي، فأخذ يكتب وأنا أُملي عليه، وهو ينظر إليّ، حتى فَرَغْتُ، فحَمَلَني على بَغْلة، وأعطاني بُرْنُسًا وسَرَقًا من حرير، وكنتُ عنده في أعلى منزلة.


(١) أي: عريفًا، ولم تجوَّد كلمة الشعبيين في النسخ، والمثبت من "تاريخ دمشق" ٢٠٨ (عاصم- عائذ).
(٢) يعني جلد حمل. وفي (أ): جمل.