للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخطب يومًا فنهى عن المنكر وأمر بالمعروف، فناداه رجل من الصفّ لا يُعرف: يا عبد الملك، مهلًا مهلًا، إنكم تأمرون ولا تأتمِرون، وتنهون ولا تنتهون، وتَعِظون ولا تتَّعِظون، أفنقتدي بكم في سيركم في أنفسكم، أم نُطيع أمركم؟ فإن قلتم: أطيعوا أمرَنا، واقبلوا نُصحَنا؛ فكيف ينصح غيره مَن غشّ نفسه، أم كيف تجب طاعة مَن لم تثبت عدالته، ولا تجوز في الحكم شهادته؟! فإن قلتم: خذوا الحكمة حيث وَجدتموها، واقبلوا العِظة ممن سمعتموها؛ فعلام قَلَّدناكم أمورَنا، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا؟! أما تعلمون أن فينا مَن هو أعرف بوجوه اللّغات، وصنوف العِظات منكم؟! فإن كانت الإمامةُ تُستَحقّ بذلك فتنحَّوا عنها، وأطلقوا عِقالها، وخلّوا سبيلَها؛ يبتدرْها أهلها الذين شَرَّدتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كلّ واد، أما إنها إن بقيت في أيديكم فلاستيفاء المدَّة، وبلوغ الغاية، ووقع المحنة، وإن لكل قائم يومًا لا يَعدوه، ووقتًا لا يألوه، ثم يصير إلى يوم يندم فيه المخدوع المفتون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]، فأَبلس عبد الملك ونزل، وطُلب الرجل فلم يوجد، فكانوا يرون أنه الخضر .

[وقال الشعبي:] كان لعبد الملك إقدام على سفك الدماء، وكان عماله على مذهبه: الحجاج بالعراق، والمُهَلَّب بخراسان.

[وقال الهيثم:] كان عبد الملك يزور أم الدرداء بمسجد دمشق، فزارها يومًا فقالت: يا عبد الملك، بلغني أنك شرِبتَ الطّلاءَ بعد النُّسْك والعبادة! فقال لها: وشربتُ الدِّماء أيضًا (١).

وقال الزهري: سَمَرتُ عنده ليلة فقال: يا بن شِهاب، أتعرف مَهبَّ الرياح؟ قلت: لا، قال: مَهَبُّ (٢) الشَّمال من بنات نَعْشٍ إلى مطلع الشّمس، ومَهبُّ الصَّبا من مطلع الشمس إلى مطلع سُهَيل، ومَهبُّ الجَنوب من مَطلع سُهيل إلى مغرب الشمس، ومَهبُّ الدَّبور من مغرب الشمس إلى بناتِ نَعْش.


(١) أخرجه ابن عساكر ٤٣/ ٢٢٧ من طريق يحيى الغساني، قال: كان عبد الملك … ، وانظر "السير" ٤/ ٢٤٩، وما سلف بين معكوفين من (ص).
(٢) في (ص): تهب، في المواضع كلها.