يومين ثم دعاني فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب في القُسطنطينية، ولا ندري أحيّ هو أم ميت، قال: يا رجاء، فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلًا خيرًا مسلمًا، فقال: هو على ذلك، والله لئن وَلَّيتُه ولم أولّ أحدًا من بني عبد الملك لتكوننَّ فتنة، ولا يتركونه يلي عليهم أبدًا؛ إلا أن أجعل أحدهم بعده -ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم- فقلت: فاجعل يزيد بعده فإنهم يرضَون به ويُسكّنهم، فكتب بيده:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وَلَّيتُه الخلافة من بعدي، ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا فيُطمَع فيكم، وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامِز صاحب شرطته: أن مُرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل فجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء: اخرج عليهم فأخبرهم أنه كتابي، ومُرْهم فليبايعوا مَن ولَّيت، قال: ففعل رجاء فقالوا: سمعًا وطاعة، قد بايعنا لمن فيه، ثم قالوا: ندخل فنسلّم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فدخلوا فسلّموا، فأشار إليهم سليمان والكتاب في يد رجاء فقال: هذا عهدي، فاسمعوا وأطيعوا، وبايعوا لمن سمَّيتُ فيه، فبايعوا رجلًا رجلًا وانصرفوا.
فقال رجاء: فلما تفرَّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حُرمة ومَودَّة، وكان بي بَرًّا مُلطِفًا، وأخشى أن يكون أسند إليَّ من هذا الأمر شيئًا، فأَنشدك الله وحُرمتي ومَودَّتي إلا أعلمتني؛ إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقال له رجاء: لا والله ما أنا بمُخبِرك حرفًا واحدًا، فانصرف عمر غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: يا رجاء، إن لي بك حُرْمة ومودَّة قديمة، وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمتُ، وإن كان إلى غيري تكلَّمتُ، فليس مثلي مَن يُقصّر به عنه، ولك اللهَ عليَّ أن لا أذكر اسمَك لأحد، قال: فقلت: والله لا أخبرك حرفًا واحدًا مما أسرَّ إلي.
قال: فانصرف هشام وهو مُؤيَس، يضرب بإحدى يديه على الأخرى ويقول: والله إني لعين بني عبد الملك بن مروان.