فسار وسار الناس معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رضًى منكم، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلَعْتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأَنَفسكم، فصاح الناس صيحةً واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فَلِ أمرَنا باليُمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأتْ، ورضوا به جميعًا حَمِد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله ﷺ وقال:
أوصيكم بتقوى الله فإن تقواه خَلَف من كل شيء، وليس من تقواه خَلَف، فاعملوا لآخرتكم؛ فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائرَكم يُصلحِ الله علانيتَكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هاذم اللذات، وإن مَن لا يذكر من آبائه مما بينه وبين آدم أبًا حيًّا لَمُعْرِق في الموتى، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أُعطي أحدًا باطلًا، ولا أمنع أحدًا حقًّا.
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس وقال: أيها الناس مَن أطاع الله فقد وجبت طاعتُه، ومَن عصى الله فلا طاعةَ له، أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عَصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم.
ثم نزل فأمر بالستور فهُتِكت، والثيابِ التي كانت تُبسَط للخلفاء فحُمِلَتْ، وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال.
ثم ذهب يتبوَّأ مَقيلًا، فأتاه ابنُه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ما تريد أن تصنع؟ فقال: يا بُنيَّ، أَقِيل، فقال له: أتَقِيل وما رَدَدْتَ المظالم؟! فقال: إني سَهرتُ البارحة مع عمك سليمان، فإذا صليتُ الظُهر ردَدْتُ المظالم، قال: فمَن لك أن تعيشَ إلى الظهر؟ فقال: يا بني، ادْنُ مني، فدنا منه، فقبَّل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صُلبي من يُعينني على الخير.
فخرج ولم يَقِل، وأمر مناديه ينادي: ألا مَن كانت له مَظلمة فليَرْفَعْها، فقام إليه رجلٌ ذِمِّي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتابَ الله، قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي -وكان العباس