قال أبو بكر: فرجعتُ إلى منزلي خائفًا منه، وكان شابًّا مقدامًا، فكتبتُ إليه: أمَّا بعد، فإن كنتَ تحدِّثُ نفسَك بالخلود؛ فكم نزلَ هذه الدارَ مثلُك، ثم خرجوا منها، وبقيَتْ آثارُهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، فاتَّقِ اللهَ ولا تسمع قولَ واشٍ وحاسدٍ على نعمة.
وأقام أبو بكر على الخوف منه، فاختصمَ رجلان؛ أحدُهما من بني فِهْر، والآخر من الأنصار، وكان أبو بكر قد قضى للأنصاريّ على الفِهْريّ في أرضٍ كانَتْ بينَهما، فأحضر أبا بكر وقال له: كيف قضيتَ على الفِهْريّ، ودفعتَ أرضَه إلى الأنصاري؟ فقال: أفتاني بذلك سعيد بنُ المسيِّب، وأبو بكر بنُ عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال عبد الرحمن للفهريّ: ما تقول؟ قال: كذا كان، ولكن لا يلزمُني قولُهما. فقال له: قم، تُقرُّ أنَّ سعيدًا وأبا بكر أفتياك، ثم تقول: ما يلزمني قولُهما! اذهبْ فأنت أحمق.
وأقام أبو بكر على الخوف من ابنِ الضَّحَّاك، وكان أبو بكر بنُ محمد قد ضربَ أبا المَغْراء عثمانَ بنَ حَيَّان حَدَّينِ في ولايته على حقٍّ، فلما ولَّى يزيدُ عبدَ الرحمن الفِهْريَّ كان ابنُ حَيّان عند يزيد، فقال له: يا أمير المؤمنين، أَقِدْني من أبي بكر بن محمد. فقال يزيد: لا أفعل ذلك برجل اصطنعه أهلُ بيتي، ولكن أولِّيك المدينة، فاقتصَّ منه. فقال: لا أفعل ذلك؛ لأني لو فعلتُه قال النَّاس: ضربه في سلطانه، فلا يكون قَوَدًا، ولكن اكتبْ إلى عبد الرحمن الفِهْريّ.
فكتب يزيد إليه يقول: إن كان ابنُ حزم ضربه في أمر بَيِّن؛ فلا تعرضْ له، وكذا إن كان ضربَه في أمر يُختلف فيه (١)، وإن كان ضربه في غير ذلك فأَقِدْه منه.
فلما قدم بالكتاب قال له عبد الرحمن: ما جئتَ بشيء، أترى ابنَ حَزْم ضربَك في أمر لا يُختلفُ فيه؟ فقال ابن حبَّان: إذا أردتَ أن تُحسنَ أحسنتَ. فقال الفِهْريّ: أمَّا الآن فنعم. وكان في قلبه على ابن حزم، كان يقول: هو خائن، ويتكبّر عليَّ.
(١) في (ب) و (خ): لا يختلف فيه. والتصويب من "أنساب الأشراف" ٧/ ١٩٤، و "تاريخ" الطبري ٦/ ٥٧٥.