للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واجتمعَ النَّاس إلى يزيد، وقصدُوا القصر، وكان في طريقه جماعة، فهزمَهم، ووصلَ إلى باب القصر، فخرج إليه عديّ، واقتتلُوا، فقُتل من أهل الشام من أصحاب عديّ جماعةٌ، ومن فرسان الحجَّاج بن يوسف، منهم الحارث بن مصرِّف الأودي من أشراف أهل الشام، وموسى بن الوجيه الحِميريّ، وراشد المؤذّن، وانهزمَ أصحابُ عديّ.

وسمع إخوة يزيد صوت الجلبة وهم محبوسون في القصر فقال لهم عبد الملك بن المهلَّب: ما أرى يزيد إلَّا قد ظهر، ولا نأمنُ مَنْ مع عديّ من مُضر ومن الشام أن يأتونا فيقتلونا. وجمعوا متاعًا، وجعلوه خلف باب الحبس، واتكؤوا عليه، فلم يلبثوا إلَّا ساعة حتَّى أقبلَ عبدُ الله بن دينار مولى بني عامر -وكان على شرطة عديّ وحرسِه- ومعه جماعة، فجاء يشتدُّ إلى باب الحبس ليقتلوا أولاد المهلَّب، وأخذوا يعالجون الباب، ولا يقدرون على فتحه، وأعجلَهم النَّاسُ، فانصرفوا.

وأُخِذَ عديّ بنُ أرطاة أسيرًا، فجيء به إلى يزيد بن المهلَّب وهو يتبسَّم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فواللهِ إنه ليمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما فرارُك من القِتْلة الكريمة حتَّى أَعطيتَ بيدك إعطاء الأَمَة بيدها. والثانية: أنني أتيتُ بك كما يُؤتى بالعبد الآبق إلى مواليه، وليس معك مني عَقْد ولا عهد، فما يؤمّنك أن أضرب عنقك؟ فقال له عديّ: أمَّا أنتَ فقد قَدَرْتَ عليّ، ولكنِ اعلمْ أنَّ بقائي بقاؤك، وهلاكي هلاكُك (١)، وقد رأيتُ جنودَ الله بالشام (٢)، وعلمتُ بلاءهم في كلِّ موطن من مواطن الغَدْر، فتدارَكْ زَلَّتك باستقالة العَثْرة؛ قبل أن يرميَ إليك البحرُ بأمواجه، فإن طلبتَ الإقالة لم تُقَلْ، فاطلب الأمان على نفسك وأهلك.

فقال له يزيد: أما قولك: إن بقائي بقاؤُك؛ فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كان لا يبقيني إلَّا بقاؤك. وأمَّا قولك: تَدارَكْ أمْرَك؛ فوالله ما استشرتُك، ولا أنتَ عندي بأمين ولا نصيح. وأمَّا تهدادك لي بالبحر وأمواجه؛ فواللهِ إنه عندي أصغر من


(١) في "تاريخ الطبري" ٦/ ٥٨٢: وأن هلاكي مطلوبٌ به من جرَّته يده.
(٢) في "تاريخ الطبري": بالمغرب.