للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم تقدَّم يزيد وإخوتُه، فقاتلوا، وكانت به خِلْفَةٌ (١) قد أضعفَتْه، وبيده تُفَّاحةٌ يَشَمُّها، فبينا هو على ذلك؛ إذا بفرسِ حبيبِ بنِ المهلَّب قد أقبلَ عائرًا (٢)، فقال يزيد: هذا -واللهِ- فرسُ أبي بِسطام، وأظنُّه قد قُتل، ولا خير في الحياة بعده.

وجاءه أبو رؤبة المرجئ، فقال له: ذهبَ النَّاس، فهل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنَّها حصن، وبها أموالك، ويأتيك مددُ أهل البصرة وعُمان والبحرين في السفن، وتَرى رأيك، فقال له: قبَّح اللهُ رأيك، ألي تقول هذا؟! واللهِ الموتُ أيسرُ على من الفرار. فقال له: أما ترى جبال الحديد حولك. قال: فواللهِ ما أُبالي أحديدًا كانت أو نارًا. ثم تمثل يقول:

أبالموتِ خَشَّتْني (٣) عِبَادٌ وإنَّما … رأيتُ منايا الناسِ يسعى دليلُها

فما مِيتَةٌ إنْ مِتُّها غيرَ عاجزٍ … بعارٍ إذا ما غالتِ النَّفْسَ غُولُها (٤)

وكان يزيد على بِرذَوْن أشهب، فأقبلَ نحو مَسْلَمةَ لا يريدُ غيرَه، فلما رآه مسلمة دعا بفرسٍ ليركبَه، وعطفت خيولُ الشَّام على يزيد، فمال إلى تلّ، فحملوا عليه حملة رجل واحد فقتلوه (٥).

واختلفوا في قاتله، فقال هشام: الفَحْل بن عيَّاش الكلبيّ؛ نظر إلى يزيد فعرفه، فقال: يَا أهل الشَّام، هذا -واللهِ- يزيد، واللهِ لأقتلنَّه أو ليقتلنِّي، فمن يحملُ معي، فإنَّ دونه أُناسًا. فقال أصحابه: نحن وحملَ وحملُوا، وارتفع الغُبار ساعة، ثم انفرج عن يزيد قتيلًا والفَحْلُ بن عيَّاش إلى جانبه بآخِر رَمَق، فأومأ إلى أصحابه: هذا يزيد أنا قتلتُه، ويومئ إلى نفسه أي: هو قتلني.

ومرَّ مسلمةُ بنُ عبد الملك، فرأى الفحلَ صريعًا إلى جانب يزيد، فقال: أما إنِّي [أطنُّ] أنَّ هذا قتلَه (٦).


(١) أي: فساد في البطن من إسهال وإقياء.
(٢) أي: من دون حبيب. والفرس العائر: المنفلت من صاحبه.
(٣) أي: خوَّفَتْي.
(٤) الغُول: كلُّ ما أَخَذَ النفسَ من حيث لا تدري فأهلكها. وينظر البيتان في "ديوان" الأَعشى ص ٢٢٧.
(٥) تاريخ الطبري ٦/ ٥٩٧. وينظر "أنساب الأشراف" ٧/ ٢٦٨ - ٢٦٩.
(٦) المصدران السابقان. وما بين حاصرتين من "تاريخ" الطبري.